فصل: الآية رقم‏(‏215‏)‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **


 الآية رقم‏(‏215‏)‏

‏{‏يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم‏}‏

قوله تعالى‏{‏يسألونك‏}‏ إن خففت الهمزة ألقيت حركتها على السين ففتحها وحذفت الهمزة فقلت‏:‏ يسلونك‏.‏ ونزلت الآية في عمرو بن الجموح، وكان شيخا كبيرا فقال‏:‏ يا رسول الله، إن مالي كثير، فبماذا أتصدق، وعلى من أنفق‏؟‏ فنزلت ‏{‏يسألونك ماذا ينفقون‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏{‏ماذا ينفقون‏}‏ ‏{‏ما‏}‏ في موضع رفع بالابتداء، و‏{‏ذا‏}‏ الخبر، وهو بمعنى الذي، وحذفت الهاء لطول الاسم، أي ما الذي ينفقونه، وإن شئت كانت ‏{‏ما‏}‏ في موضع نصب بـ ‏{‏ينفقون‏}‏ و‏{‏ذا‏}‏ مع ‏{‏ما‏}‏ بمنزلة شيء واحد ولا يحتاج إلى ضمير، ومتى كانت اسما مركبا فهي في موضع نصب، إلا ما جاء في قول الشاعر‏:‏

وماذا عسى الواشون أن يتحدثوا سوى أن يقولوا إنني لك عاشق

فإن ‏{‏عسى‏}‏ لا تعمل فيه، فـ ‏{‏ماذا‏}‏ في موضع رفع وهو مركب، إذ لا صلة لـ ‏{‏ذا‏}‏‏.‏

قيل‏:‏ إن السائلين هم المؤمنون، والمعنى يسألونك ما هي الوجوه التي ينفقون فيها، وأين يضعون ما لزم إنفاقه‏.‏ قال السدي‏:‏ نزلت هذه الآية قبل فرض الزكاة ثم نسختها الزكاة المفروضة‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ ووهم المهدوي على السدي في هذا، فنسب إليه أنه قال‏:‏ إن الآية في الزكاة المفروضة ثم نسخ منها الوالدان‏.‏ وقال ابن جريج وغيره‏:‏ هي ندب، والزكاة غير هذا الإنفاق، فعلى هذا لا نسخ فيها، وهي مبينة لمصارف صدقة التطوع، فواجب على الرجل الغني أن ينفق على أبويه المحتاجين ما يصلحهما في قدر حالهما من حاله، من طعام وكسوة وغير ذلك‏.‏ قال مالك، ليس عليه أن يزوج أباه، وعليه أن ينفق على امرأة أبيه، كانت أمه أو أجنبية، وإنما قال مالك‏:‏ ليس عليه أن يزوج أباه لأنه رآه يستغني عن التزويج غالبا، ولو احتاج حاجة ماسة لوجب أن يزوجه، ولولا ذلك لم يوجب عليه أن ينفق عليهما‏.‏ فأما ما يتعلق بالعبادات من الأموال فليس عليه أن يعطيه ما يحج به أو يغزو، وعليه أن يخرج عنه صدقة الفطر، لأنها مستحقة بالنفقة والإسلام‏.‏

قوله تعالى‏{‏قل ما أنفقتم‏}‏ ‏{‏ما‏}‏ في موضع نصب بـ ‏{‏أنفقتم‏}‏ وكذا ‏{‏وما تنفقوا‏}‏ وهو شرط والجواب ‏{‏فللوالدين‏}‏، وكذا ‏{‏وما تفعلوا من خير‏}‏ شرط، وجوابه ‏{‏فإن الله به عليم‏}‏ وقد مضى القول في اليتيم والمسكين وابن السبيل‏.‏ ونظير هذه الآية قوله تعالى ‏{‏فآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل‏}‏الروم‏:‏ 38‏]‏‏.‏ وقرأ علي بن أبي طالب ‏{‏يفعلوا‏}‏ بالياء على ذكر الغائب، وظاهر الآية الخبر، وهي تتضمن الوعد بالمجازاة‏.‏

 الآية رقم ‏(‏216‏)‏

‏{‏كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون‏}‏

قوله تعالى‏{‏كتب‏}‏ معناه فرض، وقد تقدم مثله‏.‏ وقرأ قوم ‏{‏كتب عليكم القتل‏}‏، وقال الشاعر‏:‏

كتب القتل والقتال علينا وعلى الغانيات جر الذيول

هذا هو فرض الجهاد، بين سبحانه أن هذا مما امتحنوا به وجعل وصلة إلى الجنة‏.‏ والمراد بالقتال قتال الأعداء من الكفار، وهذا كان معلوما لهم بقرائن الأحوال، ولم يؤذن للنبي صلى الله عليه وسلم في القتال مدة إقامته بمكة، فلما هاجر أذن له في قتال من يقاتله من المشركين فقال تعالى‏{‏أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا‏}‏الحج‏:‏ 39‏]‏ ثم أذن له في قتال المشركين عامة‏.‏ واختلفوا من المراد بهذه الآية، فقيل‏:‏ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خاصة، فكان القتال مع النبي صلى الله عليه وسلم فرض عين عليهم، فلما استقر الشرع صار على الكفاية، قال عطاء والأوزاعي‏.‏ قال ابن جريج‏:‏ قلت لعطاء‏:‏ أواجب الغزو على الناس في هذه الآية‏؟‏ فقال‏:‏ لا، إنما كتب على أولئك‏.‏ وقال الجمهور من الأمة‏:‏ أول فرضه إنما كان على الكفاية دون تعيين، غير أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا استنفرهم تعين عليهم النفير لوجوب طاعته‏.‏ وقال سعيد بن المسيب‏:‏ إن الجهاد فرض على كل مسلم في عينه أبدا، حكاه الماوردي‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ والذي استمر عليه الإجماع أن الجهاد على كل أمة محمد صلى الله عليه وسلم فرض كفاية، فإذا قام به من قام من المسلمين سقط عن الباقين، إلا أن ينزل العدو بساحة الإسلام فهو حينئذ فرض عين، وسيأتي هذا مبينا في سورة براءة

إن شاء الله تعالى‏.‏ وذكر المهدوي وغيره عن الثوري أنه قال‏:‏ الجهاد تطوع‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهذه العبارة عندي إنما هي على سؤال سائل وقد قيم بالجهاد، فقيل له‏:‏ ذلك تطوع‏.‏

قوله تعالى‏{‏وهو كره لكم‏}‏ ابتداء وخبر، وهو كره في الطباع‏.‏ قال ابن عرفة‏:‏ الكره، المشقة والكره - بالفتح - ما أكرهت عليه، هذا هو الاختيار، ويجوز الضم في معنى الفتح فيكونان لغتين، يقال‏:‏ كرهت الشيء كرها وكرها وكراهة وكراهية، وأكرهته عليه إكراها‏.‏ وإنما كان الجهاد كرها لأن فيه إخراج المال ومفارقة الوطن والأهل، والتعرض بالجسد للشجاج والجراح وقطع الأطراف وذهاب النفس، فكانت كراهيتهم لذلك، لا أنهم كرهوا فرض الله تعالى‏.‏ وقال عكرمة في هذه الآية‏:‏ إنهم كرهوه ثم أحبوه وقالوا‏:‏ سمعنا وأطعنا، وهذا لأن امتثال الأمر يتضمن مشقة، لكن إذا عرف الثواب هان في جنبه مقاساة المشقات‏.‏

قلت‏:‏ ومثاله في الدنيا إزالة ما يؤلم الإنسان ويخاف منه كقطع عضو وقلع ضرس، وفصد وحجامة ابتغاء العافية ودوام الصحة، ولا نعيم أفضل من الحياة الدائمة في دار الخلد والكرامة في مقعد صدق‏.‏

قوله تعالى‏{‏وعسى أن تكرهوا شيئا‏}‏ قيل‏{‏عسى‏}‏‏:‏ بمعنى قد، قاله الأصم‏.‏ وقيل‏:‏ هي واجبة‏.‏ و‏{‏عسى‏}‏ من الله واجبة في جميع القرآن إلا قوله تعالى‏{‏عسى ربه إن طلقكن أن يبدله‏}‏التحريم‏:‏ 5‏]‏‏.‏ وقال أبو عبيدة‏{‏عسى‏}‏ من الله إيجاب، والمعنى عسى أن تكرهوا ما في الجهاد من المشقة وهو خير لكم في أنكم تغلبون وتظفرون وتغنمون وتؤجرون، ومن مات مات شهيدا، وعسى أن تحبوا الدعة وترك القتال وهو شر لكم في أنكم تغلبون وتذلون ويذهب أمركم‏.‏

قلت‏:‏ وهذا صحيح لا غبار عليه، كما اتفق في بلاد الأندلس، تركوا الجهاد وجبنوا عن القتال وأكثروا من الفرار، فاستولى العدو على البلاد، وأي بلاد‏؟‏‏!‏ وأسر وقتل وسبى واسترق، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏!‏ ذلك بما قدمت أيدينا وكسبته‏!‏ وقال الحسن في معنى الآية‏:‏ لا تكرهوا الملمات الواقعة، فلرب أمر تكرهه فيه نجاتك، ولرب أم تحبه فيه عطبك، وأنشد أبو سعيد الضرير‏:‏

رب أمر تتقيه جر أمرا ترتضيه

خفي المحبوب منه وبدا المكروه فيه

 الآية رقم ‏(‏217‏)‏

‏{‏يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون‏}‏

قوله تعالى‏{‏يسألونك‏}‏ تقدم القول فيه‏.‏ وروى جرير بن عبدالحميد ومحمد بن فضيل عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال‏:‏‏(‏ما رأيت قوما خيرا من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة كلهن في القرآن‏{‏يسألونك عن المحيض‏}‏، ‏{‏يسألونك عن الشهر الحرام‏}‏، ‏{‏يسألونك عن اليتامى‏}‏، ما كانوا يسألونك إلا عما ينفعهم‏)‏‏.‏ قال ابن عبدالبر‏:‏ ليس في الحديث من الثلاث عشرة مسألة إلا ثلاث‏.‏ وروى أبو اليسار عن جندب بن عبدالله أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث رهطا وبعث عليهم أبا عبيدة بن الحارث أو عبيدة بن الحارث، فلما ذهب لينطلق بكى صبابة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعث عبدالله بن جحش، وكتب له كتابا وأمره ألا يقرأ الكتاب حتى يبلغ مكان كذا وكذا، وقال‏:‏ ولا تكرهن أصحابك على المسير، فلما بلغ المكان قرأ الكتاب فاسترجع وقال‏:‏ سمعا وطاعة لله ولرسوله، قال‏:‏ فرجع رجلان ومضى بقيتهم، فلقوا ابن الحضرمي فقتلوه، ولم يدروا أن ذلك اليوم من رجب، فقال المشركون‏:‏ قتلتم في الشهر الحرام، فأنزل الله تعالى‏{‏يسألونك عن الشهر الحرام‏}‏ الآية‏.‏ وروى أن سبب نزولها أن رجلين من بني كلاب لقيا عمرو بن أمية الضمري وهو لا يعلم أنهما كانا عند النبي صلى الله عليه وسلم وذلك في أول يوم من رجب فقتلهما، فقالت قريش‏:‏ قتلهما في الشهر الحرام، فنزلت الآية‏.‏ والقول بأن نزولها في قصة عبدالله بن جحش أكثر وأشهر، وأن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه مع تسعة رهط ، وقيل ثمانية، في جمادى الآخرة قبل بدر بشهرين، وقيل في رجب‏.‏ قال أبو عمر - في كتاب الدرر له - ‏:‏ ولما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من طلب كرز بن جابر - وتعرف تلك الخرجة ببدر الأولى - أقام بالمدينة بقية جمادى الآخرة ورجب، وبعث في رجب عبدالله بن جحش بن رئاب الأسدي ومعه ثمانية رجال من المهاجرين، وهم أبو حذيفة بن عتبة، وعكاشة بن محصن، وعتبة بن غزوان، وسهيل بن بيضاء الفهري، وسعد بن أبي وقاص، وعامر بن ربيعة، وواقد بن عبدالله التميمي، وخالد بن بكير الليثي‏.‏ وكتب لعبدالله بن جحش كتابا، وأمره ألا ينظر فيه حتى يسير يومين ثم ينظر فيه فيمضي لما أمره به ولا يستكره أحدا من أصحابه، وكان أميرهم، ففعل عبدالله بن جحش ما أمره به، فلما فتح الكتاب وقرأه وجد فيه‏:‏ ‏(‏إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف فترصد بها قريشا، وتعلم لنا من أخبارهم‏)‏‏.‏ فلما قرأ الكتاب قال‏:‏ سمعا وطاعة، ثم أخبر أصحابه بذلك، وبأنه لا يستكره أحدا منهم، وأنه ناهض لوجهه بمن أطاعه، وأنه إن لم يطعه أحد مضى وحده، فمن أحب الشهادة فلينهض، ومن كره الموت فليرجع‏.‏ فقالوا‏:‏ كلنا نرغب فيما ترغب فيه، وما منا أحد إلا وهو سامع مطيع لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ونهضوا معه، فسلك على الحجاز، وشرد لسعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان جمل كانا يعتقبانه فتخلفا في طلبه، ونفذ عبدالله بن جحش مع سائرهم لوجهه حتى نزل بنخلة، فمرت بهم عير لقريش تحمل زبيبا وتجارة فيها عمرو بن الحضرمي - واسم الحضرمي عبدالله بن عباد من الصدف، والصدف بطن من حضرموت - وعثمان بن عبدالله بن المغيرة، وأخوه نوفل بن عبدالله بن المغيرة المخزوميان، والحكم بن كيسان مولى بني المغيرة، فتشاور المسلمون وقالوا‏:‏ نحن في آخر يوم من رجب الشهر الحرام، فإن نحن قاتلناهم هتكنا حرمة الشهر الحرام‏:‏ وإن تركناهم الليلة دخلوا الحرم، ثم اتفقوا على لقائهم، فرمى واقد بن عبدالله التميمي عمرو بن الحضرمي فقتله، وأسروا عثمان بن عبدالله والحكم بن كيسان، وأفلت نوفل بن عبدالله، ثم قدموا بالعير والأسيرين، وقال لهم عبدالله بن جحش‏:‏ اعزلوا مما غنمنا الخمس لرسول الله صلى الله عليه وسلم ففعلوا، فكان أول خمس في الإسلام، ثم نزل القرآن‏{‏واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه‏}‏الأنفال‏:‏ 41 فأقر الله ورسوله فعل عبدالله بن جحش ورضيه وسنه للأمة إلى يوم القيامة، وهي أول غنيمة غنمت في الإسلام، وأول أمير، وعمرو بن الحضرمي أول قتيل‏.‏ وأنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل ابن الحضرمي في الشهر الحرام، فسقط في أيدي القوم، فأنزل الله عز وجل‏{‏يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه‏}‏ إلى قوله‏{‏هم فيها خالدون‏}‏‏.‏ وقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم الفداء في الأسيرين، فأما عثمان بن عبدالله فمات بمكة كافرا، وأما الحكم بن كيسان فأسلم وأقام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى استشهد ببئر معونة، ورجع سعد وعتبة إلى المدينة سالمين‏.‏

وقيل‏:‏ إن انطلاق سعد بن أبي وقاص وعتبة في طلب بعيرهما كان عن إذن من عبدالله بن جحش، وإن عمرو بن الحضرمي وأصحابه لما رأوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هابوهم، فقال عبدالله بن جحش‏:‏ إن القوم قد فزعوا منكم، فاحلقوا رأس رجل منكم فليتعرض لهم، فإذا رأوه محلوقا أمنوا وقالوا‏:‏ قوم عمار لا بأس عليكم، وتشاوروا في قتالهم، الحديث‏.‏ وتفاءلت اليهود وقالوا‏:‏ واقد وقدت الحرب، وعمرو عمرت الحرب، والحضرمي حضرت الحرب‏.‏ وبعث أهل مكة في فداء أسيريهم، فقال‏:‏ لا نفديهما حتى يقدم سعد وعتبة، وإن لم يقدما قتلناهما بهما، فلما قدما فاداهما فأما الحكم فأسلم وأقام بالمدينة حتى قتل يوم بئر معونة شهيدا، وأما عثمان فرجع إلى مكة فمات بها كافرا، وأما نوفل فضرب بطن فرسه يوم الأحزاب ليدخل الخندق على المسلمين فوقع في الخندق مع فرسه فتحطما جميعا فقتله الله تعالى، وطلب المشركون جيفته بالثمن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏‏(‏خذوه فإنه خبيث الجيفة خبيث الدية‏)‏ فهذا سبب نزول قوله تعالى‏{‏يسألونك عن الشهر الحرام‏}‏‏.‏ وذكر ابن إسحاق أن قتل عمرو بن الحضرمي كان في آخر يوم من رجب، على ما تقدم‏.‏ وذكر الطبري عن السدي وغيره أن ذلك كان في آخر يوم من جمادى الآخرة، والأول أشهر، على أن ابن عباس قد ورد عنه أن ذلك كان في أول ليلة من رجب، والمسلمون يظنونها من جمادى‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وذكر الصاحب بن عباد في رسالته المعروفة بالأسدية أن عبدالله بن جحش سمي أمير المؤمنين في ذلك الوقت لكونه مؤمرا على جماعة من المؤمنين‏.‏

واختلف العلماء في نسخ هذه الآية، فالجمهور على نسخها، وأن قتال المشركين في الأشهر الحرم مباح‏.‏ واختلفوا في ناسخها، فقال الزهري‏:‏ نسخها ‏{‏وقاتلوا المشركين كافة‏}‏التوبة‏:‏ 36‏.‏ وقيل نسخها غزو النبي صلى الله عليه وسلم ثقيفا في الشهر الحرام، وإغزاؤه أبا عامر إلى أوطاس في الشهر الحرام‏.‏ وقيل‏:‏ نسخها بيعة الرضوان على القتال في ذي القعدة، وهذا ضعيف، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما بلغه قتل عثمان بمكة وأنهم عازمون على حربه بايع حينئذ المسلمين على دفعهم لا على الابتداء بقتالهم‏.‏ وذكر البيهقي عن عروة بن الزبير من غير حديث محمد بن إسحاق في أثر قصة الحضرمي‏:‏ فأنزل عز وجل‏{‏يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه‏}‏ الآية، قال‏:‏ فحدثهم الله في كتابه أن القتال في الشهر الحرام حرام كما كان، وأن الذي يستحلون من المؤمنين هو أكبر من ذلك من صدهم عن سبيل الله حين يسجنونهم ويعذبونهم ويحبسونهم أن يهاجروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكفرهم بالله وصدهم المسلمين عن المسجد الحرام في الحج والعمرة والصلاة فيه، وإخراجهم أهل المسجد الحرام وهم سكانه من المسلمين، وفتنتهم إياهم عن الدين، فبلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم عقل ابن الحضرمي وحرم الشهر الحرام كما كان يحرمه، حتى أنزل الله عز وجل‏{‏براءة من الله ورسوله‏}‏التوبة‏:‏ 1‏.‏ وكان عطاء يقول‏:‏ الآية محكمة، ولا يجوز القتال في الأشهر الحرم، ويحلف على ذلك، لأن الآيات التي وردت بعدها عامة في الأزمنة، وهذا خاص والعام لا ينسخ الخاص باتفاق‏.‏ وروى أبو الزبير عن جابر قال‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقاتل في الشهر الحرام إلا أن يغزى‏.‏

قوله تعالى‏{‏قتال فيه‏}‏ ‏{‏قتال‏}‏ بدل عند سيبويه بدل اشتمال، لأن السؤال اشتمل على الشهر وعلى القتال، أي يسألك الكفار تعجبا من هتك حرمة الشهر، فسؤالهم عن الشهر إنما كان لأجل القتال فيه‏.‏ قال الزجاج‏:‏ المعنى يسألونك عن القتال في الشهر الحرام‏.‏ وقال القتبي‏:‏ يسألونك عن القتال في الشهر الحرام هل يجوز‏؟‏ فأبدل قتالا من الشهر، وأنشد سيبويه‏:‏

فما كان قيس هلكه هلك واحد ولكنه بنيان قوم تهدما

وقرأ عكرمة‏{‏يسألونك عن الشهر الحرام قتل فيه قل قتل‏}‏ بغير ألف فيهما‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى يسألونك عن الشهر الحرام وعن قتال فيه، وهكذا قرأ ابن مسعود، فيكون مخفوضا بعن على التكرير، قاله الكسائي‏.‏ وقال الفراء‏:‏ هو مخفوض على نية عن‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ هو مخفوض على الجوار‏.‏ قال النحاس‏:‏ لا يجوز أن يعرب الشيء على الجوار في كتاب الله ولا في شيء من الكلام، وإنما الجوار غلط، وإنما وقع في شيء شاذ، وهو قولهم‏:‏ هذا جحر ضب خرب، والدليل على أنه غلط قول العرب في التثنية‏:‏ هذان‏:‏ جحرا ضب خربان، وإنما هذا بمنزلة الإقواء، ولا يجوز أن يحمل شيء من كتاب الله على هذا، ولا يكون إلا بأفصح اللغات وأصحها‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ هو خفض على الجوار، وقوله هذا خطأ‏.‏ قال النحاس‏:‏ ولا يجوز إضمار عن، والقول فيه أنه بدل‏.‏ وقرأ الأعرج‏{‏يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه‏}‏ بالرفع‏.‏ قال النحاس‏:‏ وهو غامض في العربية، والمعنى فيه يسألونك عن الشهر الحرام أجائز قتال فيه‏؟‏ فقوله‏{‏يسألونك‏}‏ يدل على الاستفهام، كما قال امرؤ القيس‏:‏

أصاح ترى برقا أريك وميضه كلمع اليدين في حبي مكلل

والمعنى‏:‏ أترى برقا، فحذف ألف الاستفهام، لأن الألف التي في ‏{‏أصاح‏}‏ تدل عليها وإن كانت حرف نداء، كما قال الشاعر‏:‏

تروح من الحي أم تبتكر

والمعنى‏:‏ أتروح، فحذف الألف لأن ‏{‏أم‏}‏ تدل عليها‏.‏

قوله تعالى‏{‏قل قتال فيه كبير‏}‏ ابتداء وخبر، أي مستنكر، لأن تحريم القتال في الشهر الحرام كان ثابتا يومئذ إذ كان الابتداء من المسلمين‏.‏ والشهر في الآية اسم جنس، وكانت العرب قد جعل الله لها الشهر الحرام قواما تعتدل عنده، فكانت لا تسفك دما، ولا تغير في الأشهر الحرم، وهي رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ثلاثة سرد وواحد فرد‏.‏ وسيأتي لهذا مزيد بيان في المائدة إن شاء الله تعالى‏.‏

قوله تعالى‏{‏وصد عن سبيل الله‏}‏ ابتداء ‏{‏وكفر به‏}‏ عطف على ‏{‏صد‏}‏ ‏{‏والمسجد الحرام‏}‏ عطف على ‏{‏سبيل الله‏}‏ ‏{‏وإخراج أهله منه‏}‏ عطف على ‏{‏صد‏}‏، وخبر الابتداء ‏{‏أكبر عند الله‏}‏ أي أعظم إثما من القتال في الشهر الحرام، قاله المبرد وغيره‏.‏ وهو الصحيح، لطول منع الناس عن الكعبة أن يطاف بها‏.‏ ‏{‏وكفر به‏}‏ أي بالله، وقيل‏{‏وكفر به‏}‏ أي بالحج والمسجد الحرام‏.‏ ‏{‏وإخراج أهله منه أكبر‏}‏ أي أعظم عقوبة عند الله من القتال في الشهر الحرام‏.‏ وقال الفراء‏{‏صد‏}‏ عطف على ‏{‏كبير‏}‏‏.‏ ‏{‏والمسجد‏}‏ عطف على الهاء في ‏{‏به‏}‏، فيكون الكلام نسقا متصلا غير منقطع‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وذلك خطأ، لأن المعنى يسوق إلى أن قوله‏{‏وكفر به‏}‏ أي بالله عطف أيضا على ‏{‏كبير‏}‏، ويجيء من ذلك أن إخراج أهل المسجد منه أكبر من الكفر عند الله، وهذا بين فساده‏.‏ ومعنى الآية على قول الجمهور‏:‏ إنكم يا كفار قريش تستعظمون علينا القتال في الشهر الحرام، وما تفعلون أنتم من الصد عن سبيل الله لمن أراد الإسلام، ومن كفركم بالله وإخراجكم أهل المسجد منه، كما فعلتم برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أكبر جرما عند الله‏.‏ وقال عبدالله بن جحش رضي الله عنه‏:‏

تعدون قتلا في الحرام عظيمة وأعظم منه لو يرى الرشد راشد

صدودكم عما يقول محمد وكفر به والله راء وشاهد

وإخراجكم من مسجد الله أهله لئلا يرى لله في البيت ساجد

فإنا وإن غيرتمونا بقتله وأرجف بالإسلام باغ وحاسد

سقينا من ابن الحضرمي رماحنا بنخلة لما أوقد الحرب واقد

دما وابن عبدالله عثمان بيننا ينازعه غل من القد عاند

وقال الزهري ومجاهد وغيرهما‏:‏ قوله تعالى‏{‏قل قتال فيه كبير‏}‏ منسوخ بقوله‏{‏وقاتلوا المشركين كافة‏}‏ وبقوله‏{‏فاقتلوا المشركين‏}‏التوبة‏:‏ 5‏.‏ وقال عطاء‏:‏ لم ينسخ، ولا ينبغي القتال في الأشهر الحرم، وقد تقدم‏.‏

قوله تعالى‏{‏والفتنة أكبر من القتل‏}‏ قال مجاهد وغيره‏:‏ الفتنة هنا الكفر، أي كفركم أكبر من قتلنا أولئك‏.‏ وقال الجمهور‏:‏ معنى الفتنة هنا فتنتهم المسلمين عن دينهم حتى يهلكوا، أي أن ذلك أشد اجتراما من قتلكم في الشهر الحرام‏.‏

قوله تعالى‏{‏ولا يزالون‏}‏ ابتداء خبر من الله تعالى، وتحذير منه للمؤمنين من شر الكفرة‏.‏ قال مجاهد‏:‏ يعني كفار قريش‏.‏ و‏{‏يردوكم‏}‏ نصب بحتى، لأنها غاية مجردة‏.‏

قوله تعالى‏{‏ومن يرتدد‏}‏ أي يرجع عن الإسلام إلى الكفر ‏{‏فأولئك حبطت‏}‏ أي بطلت وفسدت، ومنه الحبط وهو فساد يلحق المواشي في بطونها من كثرة أكلها الكلأ فتنتفخ أجوافها، وربما تموت من ذلك، فالآية تهديد للمسلمين ليثبتوا على دين الإسلام‏.‏

واختلف العلماء في المرتد هل يستتاب أم لا‏؟‏ وهل يحبط عمله بنفس الردة أم لا، إلا على الموافاة على الكفر‏؟‏ وهل يورث أم لا‏؟‏ قالت طائفة‏:‏ يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، وقال بعضهم‏:‏ ساعة واحدة‏.‏ وقال آخرون‏:‏ يستتاب شهرا‏.‏ وقال آخرون‏:‏ يستتاب ثلاثا، على ما روي عن عمر وعثمان، وهو قول مالك رواه عنه ابن القاسم‏.‏ وقال الحسن‏:‏ يستتاب مائة مرة، وقد روي عنه أنه يقتل دون استتابة، وبه قال الشافعي في أحد قوليه، وهو أحد قولي طاوس وعبيد بن عمير‏.‏ وذكر سحنون أن عبدالعزيز بن أبي سلمة الماجشون كان يقول‏:‏ يقتل المرتد ولا يستتاب، واحتج بحديث معاذ وأبي موسى، وفيه‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث أبا موسى إلى اليمن أتبعه معاذ بن جبل فلما قدم عليه قال‏:‏ انزل، وألقى إليه وسادة، وإذا رجل عنده موثق قال‏:‏ ما هذا‏؟‏ قال‏:‏ هذا كان يهوديا فأسلم ثم راجع دينه دين السوء فتهود‏.‏ قال‏:‏ لا أجلس حتى يقتل، قضاء الله ورسوله، فقال‏:‏ اجلس‏.‏ قال‏:‏ نعم لا أجلس حتى يقتل، قضاء الله ورسوله - ثلاث مرات - فأمر به فقتل، خرجه مسلم وغيره‏.‏ وذكر أبو يوسف عن أبى حنيفة أن المرتد يعرض عليه الإسلام فإن أسلم وإلا قتل مكانه، إلا أن يطلب أن يؤجل، فإن طلب ذلك أجل ثلاثة أيام، والمشهور عنه وعن أصحابه أن المرتد لا يقتل حتى يستتاب‏.‏ والزنديق عندهم والمرتد سواء‏.‏ وقال مالك‏:‏ وتقتل الزنادقة ولا يستتابون‏.‏ وقد مضى هذا أول البقرة ‏.‏ واختلفوا فيمن خرج من كفر إلى كفر، فقال مالك وجمهور الفقهاء‏:‏ لا يتعرض له، لأنه انتقل إلى ما لو كان عليه في الابتداء لأقر عليه‏.‏ وحكى ابن عبدالحكم عن الشافعي أنه يقتل، لقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏من بدل دينه فاقتلوه‏)‏ ولم يخص مسلما من كافر‏.‏ وقال مالك‏:‏ معنى الحديث من خرج من الإسلام إلى الكفر، وأما من خرج من كفر إلى كفر فلم يعن بهذا الحديث، وهو قول جماعة من الفقهاء‏.‏ والمشهور عن الشافعي ما ذكره المزني والربيع أن المبدل لدينه من أهل الذمة يلحقه الإمام بأرض الحرب ويخرجه من بلده ويستحل ماله مع أموال الحربيين إن غلب على الدار، لأنه إنما جعل له الذمة على الدين الذي كان عليه في حين عقد العهد‏.‏ واختلفوا في المرتدة، فقال مالك والأوزاعي والشافعي والليث بن سعد‏:‏ تقتل كما يقتل المرتد سواء، وحجتهم ظاهر الحديث‏:‏ ‏(‏من بدل دينه فاقتلوه‏)‏‏.‏ و‏{‏من‏}‏ يصلح للذكر والأنثى‏.‏ وقال الثوري وأبو حنيفة وأصحابه‏:‏ لا تقتل المرتدة، وهو قول ابن شبرمة، وإليه ذهب ابن علية، وهو قول عطاء والحسن‏.‏ واحتجوا بأن ابن عباس‏"‏روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏من بدل دينه فاقتلوه‏)‏ ثم إن ابن عباس لم يقتل المرتدة، ومن‏"‏روى حديثا كان أعلم بتأويله، وروي عن علي مثله‏.‏ ونهى صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان‏.‏ واحتج الأولون بقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث كفر بعد إيمان‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ فعم كل من كفر بعد إيمانه، وهو أصح‏.‏

قال الشافعي‏:‏ إن من ارتد ثم عاد إلى الإسلام لم يحبط عمله ولا حجه الذي فرغ منه، بل إن مات على الردة فحينئذ تحبط أعماله‏.‏ وقال مالك‏:‏ تحبط بنفس الردة، ويظهر الخلاف في المسلم إذا حج ثم ارتد ثم أسلم، فقال مالك‏:‏ يلزمه الحج، لأن الأول قد حبط بالردة‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ لا إعادة عليه، لأن عمله باق‏.‏ واستظهر علماؤنا بقوله تعالى‏{‏لئن أشركت ليحبطن عملك‏}‏الزمر‏:‏ 65‏]‏‏.‏ قالوا‏:‏ وهو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته، لأنه عليه السلام يستحيل منه الردة شرعا‏.‏ وقال أصحاب الشافعي‏:‏ بل هو خطاب النبي صلى الله عليه وسلم على طريق التغليظ على الأمة، وبيان أن النبي صلى الله عليه وسلم على شرف منزلته لو أشرك لحبط عمله، فكيف أنتم‏!‏ لكنه لا يشرك لفضل مرتبته، كما قال‏{‏يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين‏}‏الأحزاب‏:‏ 30‏]‏ وذلك لشرف منزلتهن، وإلا فلا يتصور إتيان منهن صيانة لزوجهن المكرم المعظم، ابن العربي‏.‏ وقال علماؤنا‏:‏ إنما ذكر الله الموافاة شرطا ههنا لأنه علق عليها الخلود في النار جزاء، فمن وافى على الكفر خلده الله في النار بهذه الآية، ومن أشرك حبط عمله بالآية الأخرى، فهما آيتان مفيدتان لمعنيين، وحكمين متغايرين‏.‏ وما خوطب به عليه السلام فهو لأمته حتى يثبت اختصاصه، وما ورد في أزواجه فإنما قيل ذلك فيهن ليبين أنه لو تصور لكان هتكان أحدهما لحرمة الدين، والثاني لحرمة النبي صلى الله عليه وسلم، ولكل هتك حرمة عقاب، وينزل ذلك منزلة من عصى في الشهر الحرام أو في البلد الحرام أو في المسجد الحرام، يضاعف عليه العذاب بعدد ما هتك من الحرمات‏.‏ والله أعلم‏.‏

اختلاف العلماء في ميراث المرتد‏:‏ فقال علي بن أبي طالب والحسن والشعبي والحكم والليث وأبو حنيفة وإسحاق بن راهويه‏:‏ ميراث المرتد لورثته من المسلمين‏.‏ وقال مالك وربيعة وابن أبي ليلى والشافعي وأبو ثور‏:‏ ميراثه في بيت المال‏.‏ وقال ابن شبرمة وأبو يوسف ومحمد والأوزاعي في إحدى الروايتين‏:‏ ما اكتسبه المرتد بعد الردة فهو لورثته المسلمين‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ ما اكتسبه المرتد في حال الردة فهو فيء، وما كان مكتسبا في حالة الإسلام ثم ارتد يرثه ورثته المسلمون، وأما ابن شبرمة وأبو يوسف ومحمد فلا يفصلون بين الأمرين، ومطلق قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏لا وراثة بين أهل ملتين‏)‏ يدل على بطلان قولهم‏.‏ وأجمعوا على أن ورثته من الكفار لا يرثونه، سوى عمر بن عبدالعزيز فإنه قال‏:‏ يرثونه‏.‏

 الآية رقم ‏(‏218‏)‏

‏{‏إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله والله غفور رحيم‏}‏

قوله تعالى‏{‏إن الذين آمنوا والذين هاجروا‏}‏ الآية‏.‏ قال جندب بن عبدالله وعروة بن الزبير وغيرهما‏:‏ لما قتل واقد بن عبدالله التميمي عمرو بن الحضرمي في الشهر الحرام توقف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أخذ خمسه الذي وفق في فرضه له عبدالله بن جحش وفي الأسيرين، فعنف المسلمون عبدالله بن جحش وأصحابه حتى شق ذلك عليهم، فتلافاهم الله عز وجل بهذه الآية في الشهر الحرام وفرج عنهم، وأخبر أن لهم ثواب من هاجر وغزا، فالإشارة إليهم في قوله‏{‏إن الذين آمنوا‏}‏ ثم هي باقية في كل من فعل ما ذكره الله عز وجل‏.‏ وقيل‏:‏ إن لم يكونوا أصابوا وزرا فليس لهم أجر، فأنزل الله‏{‏إن الذين آمنوا والذين هاجروا‏}‏ إلى آخر الآية‏.‏

والهجرة معناها الانتقال من موضع إلى موضع، وقصد ترك الأول إيثارا للثاني‏.‏ والهجر ضد الوصل‏.‏ وقد هجره هجرا وهجرانا، والاسم الهجرة‏.‏ والمهاجرة من أرض إلى أرض ترك الأولى للثانية‏.‏ والتهاجر التقاطع‏.‏ ومن قال‏:‏ المهاجرة الانتقال من البادية إلى الحاضرة فقد أوهم، بسبب أن ذلك كان الأغلب في العرب، وليس أهل مكة مهاجرين على قوله‏.‏ ‏{‏وجاهد‏}‏ مفاعلة من جهد إذا استخرج الجهد، مجاهدة وجهادا‏.‏ والاجتهاد والتجاهد‏:‏ بذل الوسع والمجهود‏.‏ والجهاد ‏(‏بالفتح‏)‏‏:‏ الأرض الصلبة‏.‏ ‏{‏ويرجون‏}‏ معناه يطمعون ويستقربون‏.‏ وإنما قال ‏{‏يرجون‏}‏ وقد مدحهم لأنه لا يعلم أحد في هذه الدنيا أنه صائر إلى الجنة ولو بلغ في طاعة الله كل مبلغ، لأمرين‏:‏ أحدهما لا يدري بما يختم له‏.‏ والثاني - لئلا يتكل على عمله، والرجاء ينعم، والرجاء أبدا معه خوف ولا بد، كما أن الخوف معه رجاء‏.‏ والرجاء من الأمل ممدود، يقال‏:‏ رجوت فلانا رجوا ورجاء ورجاوة، يقال‏:‏ ما أتيتك إلا رجاوة الخير‏.‏ وترجيته وارتجيته ورجيته وكله بمعنى رجوته، قال بشر يخاطب بنته‏:‏

فرجي الخير وانتظري إيابي إذا ما القارظ العنزي آبا

وما لي في فلان رجية، أي ما أرجو‏.‏ وقد يكون الرجو والرجاء بمعنى الخوف، قال الله تعالى‏{‏ما لكم لا ترجون لله وقارا‏} ‏نوح‏:‏ 13‏]‏ أي لا تخافون عظمة الله، قال أبو ذؤيب‏:‏

إذا لسعته النحل لم يرج لسعها وخالفها في بيت نوب عوامل

أي لم يخف ولم يبال‏.‏ والرجا - مقصور - ‏:‏ ناحية البئر وحافتاها، وكل ناحية رجا‏.‏ والعوام من الناس يخطئون في قولهم‏:‏ يا عظيم الرجا، فيقصرون ولا يمدون‏.‏

 الآية رقم ‏(‏219‏)‏

‏{‏يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون‏}‏

قوله تعالى‏{‏يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما‏}‏ فيه تسع مسائل‏:‏

قوله تعالى‏{‏يسألونك‏}‏ السائلون هم المؤمنون، كما تقدم‏.‏ والخمر مأخوذة من خمر إذا ستر، ومنه خمار المرأة‏.‏ وكل شيء غطى شيئا فقد خمره، ومنه ‏{‏خمروا آنيتكم‏}‏ فالخمر تخمر العقل، أي تغطيه وتستره، ومن ذلك الشجر الملتف يقال له‏:‏ الخمر ‏(‏بفتح الميم لأنه يغطي ما تحته ويستره، يقال منه‏:‏ أخمرت الأرض كثر خمرها، قال الشاعر‏:‏

ألا يا زيد والضحاك سيرا فقد جاوزتما خمر الطريق

أي سيرا مدلين فقد جاوزتما الوهدة التي يستتر بها الذئب وغيره‏.‏ وقال العجاج يصف جيشا يمشي برايات وجيوش غير مستخف‏:‏

في لامع العقبان لا يمشي الخمر يوجه الأرض ويستاق الشجر

ومنه قولهم‏:‏ دخل في غمار الناس وخمارهم، أي هو في مكان خاف‏.‏ فلما كانت الخمر تستر العقل وتغطيه سميت بذلك وقيل‏:‏ إنما سميت الخمر خمرا لأنها تركت حتى أدركت، كما يقال‏:‏ قد اختمر العجين، أي بلغ إدراكه‏.‏ وخمر الرأي، أي ترك حتى يتبين فيه الوجه‏.‏ وقيل‏:‏ إنما سميت الخمر خمرا لأنها تخالط العقل، من المخامرة وهي المخالطة، ومنه قولهم‏:‏ دخلت في خمار الناس، أي اختلطت بهم‏.‏ فالمعاني الثلاثة متقاربة، فالخمر تركت وخمرت حتى أدركت، ثم خالطت العقل، ثم خمرته، والأصل الستر‏.‏

والخمر‏:‏ ماء العنب الذي غلى أو طبخ، وما خامر العقل من غيره فهو في حكمه، لأن إجماع العلماء أن القمار كله حرام‏.‏ وإنما ذكر الميسر من بينه فجعل كله قياسا على الميسر، والميسر إنما كان قمارا في الجزر خاصة، فكذلك كل ما كان كالخمر فهو بمنزلتها‏.‏

والجمهور من الأمة على أن ما أسكر كثيره من غير خمر العنب فمحرم قليله وكثيره، والحد في ذلك واجب‏.‏ وقال أبو حنيفة والثوري وابن أبي ليلى وابن شبرمة وجماعة من فقهاء الكوفة‏:‏ ما أسكر كثيره من غير خمر العنب فهو حلال، وإذا سكر منه أحد دون أن يتعمد الوصول إلى حد السكر فلا حد عليه، وهذا ضعيف يرده النظر والخبر، على ما يأتي بيانه في المائدة والنحل إن شاء الله تعالى‏.‏

قال بعض المفسرين‏:‏ إن الله تعالى لم يدع شيئا من الكرامة والبر إلا أعطاه هذه الأمة، ومن كرامته وإحسانه أنه لم يوجب عليهم الشرائع دفعة واحدة، ولكن أوجب عليهم مرة بعد مرة، فكذلك تحريم الخمر‏.‏ وهذه الآية أول ما نزل في أمر الخمر، ثم بعده‏{‏لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى‏}‏النساء‏:‏ 43‏ ثم قوله‏{‏إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون‏} ‏المائدة‏:‏ 91‏ ثم قوله‏{‏إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه‏}‏المائدة‏:‏ 90‏على ما يأتي بيانه في المائدة ‏.‏

قوله تعالى‏{‏والميسر‏}‏ الميسر‏:‏ قمار العرب بالأزلام‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ ‏(‏كان الرجل في الجاهلية يخاطر الرجل على أهله وماله فأيهما قمر صاحبه ذهب بماله وأهله‏)‏ فنزلت الآية‏.‏ وقال مجاهد ومحمد بن سيرين والحسن وابن المسيب وعطاء وقتادة ومعاوية بن صالح وطاوس وعلي بن أبى طالب رضي الله عنه وابن عباس أيضا‏:‏ ‏(‏كل شيء فيه قمار من نرد وشطرنج فهو الميسر، حتى لعب الصبيان بالجوز والكعاب، إلا ما أبيح من الرهان في الخيل والقرعة في إفراز الحقوق‏)‏، على ما يأتي‏.‏ وقال مالك‏:‏ الميسر ميسران‏:‏ ميسر اللهو، وميسر القمار، فمن ميسر اللهو النرد والشطرنج والملاهي كلها‏.‏ وميسر القمار‏:‏ ما يتخاطر الناس عليه‏.‏ قال علي بن أبي طالب‏:‏ الشطرنج ميسر العجم‏.‏ وكل ما قومر به فهو ميسر عند مالك وغيره من العلماء‏.‏ وسيأتي في يونس زيادة بيان لهذا الباب إن شاء الله تعالى‏.‏

والميسر مأخوذ من اليسر، وهو وجوب الشيء لصاحبه، يقال‏:‏ يسر لي كذا إذا وجب فهو ييسر يسرا وميسرا‏.‏ والياسر‏:‏ اللاعب بالقداح، وقد يسر ييسر، قال الشاعر‏:‏

فأعنهم وايسر بما يسروا به وإذا هم نزلوا بضنك فانزل

وقال الأزهري‏:‏ الميسر‏:‏ الجزور الذي كانوا يتقامرون عليه، سمي ميسرا لأنه يجزأ أجزاء، فكأنه موضع التجزئة، وكل شيء جزأته فقد يسرته‏.‏ والياسر‏:‏ الجازر، لأنه يجزئ لحم الجزور‏.‏ قال‏:‏ وهذا الأصل في الياسر، ثم يقال للضاربين بالقداح والمتقامرين على الجزور‏:‏ ياسرون، لأنهم جازرون إذ كانوا سببا لذلك‏.‏ وفي الصحاح‏:‏ ويسر القوم الجزور أي اجتزروها واقتسموا أعضاءها‏.‏ قال سحيم بن وثيل اليربوعي‏:‏

أقول لهم بالشعب إذ ييسرونني ألم تيأسوا أني ابن فارس زهدم

كان قد وقع عليه سباء فضرب عليه بالسهام‏.‏ ويقال‏:‏ يسر القوم إذا قامروا‏.‏ ورجل يسر وياسر بمعنى‏.‏ والجمع أيسار، قال النابغة‏:‏

أنى أتمم أيساري وأمنحهم مثنى الأيادي وأكسو الجفنة الأدما

وقال طرفة‏:‏

وهم أيسار لقمان إذا أغلت الشتوة أبداء الجزر

وكان من تطوع بنحرها ممدوحا عندهم، قال الشاعر‏:‏

وناجية نحرت لقوم صدق وما ناديت أيسار الجزر

روى مالك في الموطأ عن داود بن حصين أنه سمع سعيد بن المسيب يقول‏:‏ كان من ميسر أهل الجاهلية بيع اللحم بالشاة والشاتين، وهذا محمول عند مالك وجمهور أصحابه في الجنس الواحد، حيوانه بلحمه، وهو عنده من باب المزابنة والغرر والقمار، لأنه لا يدرى هل في الحيوان مثل اللحم الذي أعطى أو أقل أو أكثر، وبيع اللحم باللحم لا يجوز متفاضلا، فكان بيع الحيوان باللحم كبيع اللحم المغيب في جلده إذا كانا من جنس واحد، والجنس الواحد عنده الإبل والبقر والغنم والظباء والوعول وسائر الوحوش، وذوات الأربع المأكولات كلها عنده جنس واحد، لا يجوز بيع شيء من حيوان هذا الصنف والجنس كله بشيء واحد من لحمه بوجه من الوجوه، لأنه عنده من باب المزابنة، كبيع الزبيب بالعنب والزيتون بالزيت والشيرج بالسمسم، ونحو ذلك‏.‏ والطير عنده كله جنس واحد، وكذلك الحيتان من سمك وغيره‏.‏ وروي عنه أن الجراد وحده صنف‏.‏ وقال الشافعي وأصحابه والليث بن سعد‏:‏ لا يجوز بيع اللحم بالحيوان على حال من الأحوال من جنس واحد كان أم من جنسين مختلفين، على عموم الحديث‏.‏ وروي عن ابن عباس ‏(‏أن جزورا نحرت على عهد أبي بكر الصديق فقسمت على عشرة أجزاء، فقال رجل‏:‏ أعطوني جزءا منها بشاة، فقال أبو بكر‏:‏ لا يصلح هذا‏)‏‏.‏ قال الشافعي‏:‏ ولست أعلم لأبي بكر في ذلك مخالفا من الصحابة‏.‏ قال أبو عمر‏:‏ قد روي عن ابن عباس ‏(‏أنه أجاز بيع الشاة باللحم، وليس بالقوي‏)‏‏.‏ وذكر عبدالرزاق عن الثوري عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أنه كره أن يباع حي بميت، يعني الشاة المذبوحة بالقائمة‏.‏ قال سفيان‏:‏ ونحن لا نرى به بأسا‏.‏ قال المزني‏:‏ إن لم يصح الحديث في بيع الحيوان باللحم فالقياس أنه جائز، وإن صح بطل القياس واتبع الأثر‏.‏ قال أبو عمر‏:‏ وللكوفيين في أنه جائز بيع اللحم بالحيوان حجج كثيرة من جهة القياس والاعتبار، إلا أنه إذا صح الأثر بطل القياس والنظر‏.‏ وروى مالك عن زيد بن أسلم عن سعيد بن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الحيوان باللحم‏.‏ قال أبو عمر‏:‏ ولا أعلمه يتصل عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجه ثابت، وأحسن أسانيده مرسل سعيد بن المسيب على ما ذكره مالك في موطئه، وإليه ذهب الشافعي، وأصله أنه لا يقبل المراسيل إلا أنه زعم أنه افتقد مراسيل سعيد فوجدها أو أكثرها صحاحا‏.‏ فكره بيع أنواع الحيوان بأنواع اللحوم على ظاهر الحديث وعمومه، لأنه لم يأت أثر يخصه ولا إجماع‏.‏ ولا يجوز عنده أن يخص النص بالقياس‏.‏ والحيوان عنده اسم لكل ما يعيش في البر والماء وإن اختلفت أجناسه، كالطعام الذي هو اسم لكل مأكول أو مشروب، فاعلم‏.‏

قوله تعالى‏{‏قل فيهما‏}‏ يعني الخمر والميسر ‏{‏إثم كبير‏}‏ إثم الخمر ما يصدر عن الشارب من المخاصمة والمشاتمة وقول الفحش والزور، وزوال العقل الذي يعرف به ما يجب لخالقه، وتعطيل الصلوات والتعوق عن ذكر الله، إلى غير ذلك‏.‏‏"‏روى النسائي عن عثمان رضي الله عنه قال‏:‏ اجتنبوا الخمر فإنها أم الخبائث، إنه كان رجل ممن كان قبلكم تعبد فعلقته امرأة غوية، فأرسلت إليه جاريتها فقالت له‏:‏ إنا ندعوك للشهادة، فانطلق مع جاريتها فطفقت كلما دخل بابا أغلقته دونه، حتى أفضى إلى امرأة وضيئة عندها غلام وباطية خمر، فقالت‏:‏ إني والله ما دعوتك للشهادة، ولكن دعوتك لتقع علي، أو تشرب من هذه الخمر كأسا، أو تقتل هذا الغلام‏.‏ قال‏:‏ فاسقيني من هذه الخمر كأسا، فسقته كأسا‏.‏ قال‏:‏ زيدوني، فلم يرم حتى وقع عليها، وقتل النفس، فاجتنبوا الخمر، فإنها والله لا يجتمع الإيمان وإدمان الخمر، إلا ليوشك أن يخرج أحدهما صاحبه، وذكره أبو عمر في الاستيعاب‏.‏ وروي أن الأعشى لما توجه إلى المدينة ليسلم فلقيه بعض المشركين في الطريق فقالوا له‏:‏ أين تذهب‏؟‏ فأخبرهم بأنه يريد محمدا صلى الله عليه وسلم، فقالوا‏:‏ لا تصل إليه، فإنه يأمرك بالصلاة، فقال‏:‏ إن خدمة الرب واجبة‏.‏ فقالوا‏:‏ إنه يأمرك بإعطاء المال إلى الفقراء‏.‏ فقال‏:‏ اصطناع المعروف واجب‏.‏ فقيل له‏:‏ إنه ينهى عن الزنى‏.‏ فقال‏:‏ هو فحش وقبيح في العقل، وقد صرت شيخا فلا أحتاج إليه‏.‏ فقيل له‏:‏ إنه ينهى عن شرب الخمر‏.‏ فقال‏:‏ أما هذا فإني لا أصبر عليه‏!‏ فرجع، وقال‏:‏ أشرب الخمر سنة ثم أرجع إليه، فلم يصل إلى منزله حتى سقط عن البعير فانكسرت عنقه فمات‏.‏ وكان قيس بن عاصم المنقري شرابا لها في الجاهلية ثم حرمها على نفسه، وكان سبب ذلك أنه غمز عكنة ابنته وهو سكران، وسب أبويه، ورأى القمر فتكلم بشيء، وأعطى الخمار كثيرا من ماله، فلما أفاق أخبر بذلك فحرمها على نفسه، وفيها يقول‏:‏

رأيت الخمر صالحة وفيها خصال تفسد الرجل الحليما

فلا والله أشربها صحيحا ولا أشفى بها أبدا سقيما

ولا أعطي بها ثمنا حياتي ولا أدعو لها أبدا نديما

فإن الخمر تفضح شاربيها وتجنيهم بها الأمر العظيما

قال أبو عمر‏:‏ وروى ابن الأعرابي عن المفضل الضبي أن هذه الأبيات لأبي محجن الثقفي قالها في تركه الخمر، وهو القائل رضي الله عنه‏:‏

إذا مت فادفني إلى جنب كرمة تروي عظامي بعد موتي عروقها

ولا تدفنني بالفلاة فإنني أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها

وجلده عمر الحد عليها مرارا، ونفاه إلى جزيرة في البحر، فلحق بسعد فكتب إليه عمر أن يحبسه فحبسه، وكان أحد الشجعان البهم، فلما كان من أمره في حرب القادسية ما هو معروف حل قيوده وقال لا نجلدك على الخمر أبدا‏.‏ قال أبو محجن‏:‏ وأنا والله لا أشربها أبدا، فلم يشربها بعد ذلك‏.‏ وفي رواية‏:‏ قد كنت أشربها إذ يقام علي الحد وأطهر منها، وأما إذ بهرجتني فوالله لا أشربها أبدا‏.‏ وذكر الهيثم بن عدي أنه أخبره من رأى قبر أبي محجن بأذربيجان، أو قال‏:‏ في نواحي جرجان، وقد نبتت عليه ثلاث أصول كرم وقد طالت وأثمرت، وهي معروشة على قبره، ومكتوب على القبر هذا قبر أبي محجن قال‏:‏ فجعلت أتعجب وأذكر قوله‏:‏

إذا مت فادفني إلى جنب كرمة

ثم إن الشارب يصير ضحكة للعقلاء، فيلعب ببوله وعذرته، وربما يمسح وجهه، حتى رؤي بعضهم يمسح وجهه ببوله ويقول‏:‏ اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين ورؤي بعضهم والكلب يلحس وجهه وهو يقول له‏:‏ أكرمك الله‏.‏

وأما القمار فيورث العداوة والبغضاء، لأنه أكل مال الغير بالباطل‏.‏

قوله تعالى‏{‏ومنافع للناس‏}‏ أما في الخمر فربح التجارة، فإنهم كانوا يجلبونها من الشام برخص فيبيعونها في الحجاز بربح، وكانوا لا يرون المماسكة فيها، فيشتري طالب الخمر الخمر بالثمن الغالي‏.‏ هذا أصح ما قيل في منفعتها، وقد قيل في منافعها‏:‏ إنها تهضم الطعام، وتقوي الضعف، وتعين على الباه، وتسخي البخيل، وتشجع الجبان، وتصفي اللون، إلى غير ذلك من اللذة بها‏.‏ وقد قال حسان بن ثابت رضي الله عنه‏:‏

ونشربها فتتركنا ملوكا وأسدا ما ينهنهنا اللقاء

إلى غير ذلك من أفراحها‏.‏ وقال آخر‏:‏

فإذا شربت فإنني رب الخورنق والسدير

وإذا صحوت فإنني رب الشويهة والبعير

ومنفعة الميسر مصير الشيء إلى الإنسان في القمار بغير كد ولا تعب، فكانوا يشترون الجزور ويضربون بسهامهم، فمن خرج سهمه أخذ نصيبه من اللحم ولا يكون عليه من الثمن شيء، ومن بقي سهمه آخر كان عليه ثمن الجزور كله ولا يكون له من اللحم شيء‏.‏ وقيل‏:‏ منفعته التوسعة على المحاويج، فإن من قمر منهم كان لا يأكل من الجزور وكان يفرقه في المحتاجين‏.‏

وسهام الميسر أحد عشر سهما، منها سبعة لها حظوظ وفيها فروض على عدد الحظوظ، وهي الفذ وفيه علامة واحدة له نصيب وعليه نصيب إن خاب‏.‏ الثاني التوأم وفيه علامتان وله وعليه نصيبان‏.‏ الثالث الرقيب وفيه ثلاث علامات على ما ذكرنا‏.‏ الرابع حلس وله أربع‏.‏ الخامس النافز والنافس أيضا وله خمس‏.‏ السادس المسبل وله ست‏.‏ السابع المعلى وله سبع‏.‏ فذلك ثمانية وعشرون فرضا، وأنصباء الجزور كذلك في قول الأصمعي‏.‏ وبقي من السهام أربعة، وهي الأغفال لا فروض لها ولا أنصباء، وهي المصدر و المضعف و المنيح و السفيح ‏.‏ وقيل‏:‏ الباقية الأغفال الثلاثة السفيح و المنيح و الوغد تزاد هذه الثلاثة لتكثر السهام على الذي يجيلها فلا يجد إلى الميل مع أحد سبيلا‏.‏ ويسمى المجيل المفيض والضارب والضريب والجمع الضرباء‏.‏ وقيل‏:‏ يجعل خلفه رقيب لئلا يحابي أحدا، ثم يجثو الضريب على ركبتيه، ويلتحف بثوب ويخرج رأسه ويدخل يده في الربابة فيخرج‏.‏ وكانت عادة العرب أن تضرب الجزور بهذه السهام في الشتوة وضيق الوقت وكلب البرد على الفقراء، يشترى الجزور ويضمن الأيسار ثمنها ويرضي صاحبها من حقه، وكانوا يفتخرون بذلك ويذمون من لم يفعل ذلك منهم، ويسمونه البرم قال متمم بن نويرة‏:‏

ولا برما تهدي النساء لعرسه إذا القشع من برد الشتاء تقعقعا

ثم تنحر وتقسم على عشرة أقسام‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وأخطأ الأصمعي في قسمة الجزور، فذكر أنها على قدر حظوظ السهام ثمانية وعشرون قسما، وليس كذلك، ثم يضرب على العشرة فمن فاز سهمه بأن يخرج من الربابة متقدما أخذ أنصباءه وأعطاها الفقراء‏.‏ والربابة ‏(‏بكسر الراء‏)‏‏:‏ شبيهة بالكنانة تجمع فيها سهام الميسر، وربما سموا جميع السهام ربابة، قال أبو ذؤيب يصف الحمار وأتنه‏:‏

وكأنهن ربابة وكأنه يسر يفيض على القداح ويصدع

والربابة أيضا‏:‏ العهد والميثاق، قال الشاعر‏:‏

وكنت امرأ أفضت إليك ربابتي وقبلك ربتني فضعت ربوب

وفي أحيان ربما تقامروا لأنفسهم ثم يغرم الثمن من لم يفز سهمه، كما تقدم‏.‏ ويعيش بهذه السيرة فقراء الحي، ومنه قول الأعشى‏:‏

المطعمو الضيف إذا ما شتوا والجاعلو القوت على الياسر

ومنه قول الآخر‏:‏

بأيديهم مقرومة ومغالق يعود بأرزاق العفاة منيحها

و المنيح في هذا البيت المستمنح، لأنهم كانوا يستعيرون السهم الذي قد امَّلس وكثر فوزه، فذلك المنيح الممدوح‏.‏ وأما المنيح الذي هو أحد الأغفال فذلك إنما يوصف بالكر، وإياه أراد الأخطل بقوله‏:‏

ولقد عطفن على فزارة عطفة كر المنيح وجلن ثم مجالا

وفي الصحاح والمنيح سهم من سهام الميسر مما لا نصيب له إلا أن يمنح صاحبه شيئا ‏.‏ ومن الميسر قول لبيد‏:‏

إذا يسروا لم يورث اليسر بينهم فواحش ينعى ذكرها بالمصايف

فهذا كله نفع الميسر، إلا أنه أكل المال بالباطل‏.‏

قوله تعالى‏{‏وإثمهما أكبر من نفعهما‏}‏ أعلم الله جل وعز أن الإثم أكبر من النفع، وأعود بالضرر في الآخرة، فالإثم الكبير بعد التحريم، والمنافع قبل التحريم‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي كثير بالثاء المثلثة، وحجتهما أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن الخمر ولعن معها عشرة‏:‏ بائعها ومبتاعها والمشتراة له وعاصرها والمعصورة له وساقيها وشاربها وحاملها والمحمولة له وآكل ثمنها‏.‏ وأيضا فجمع المنافع يحسن معه جمع الآثام‏.‏ و كثير بالثاء المثلثة يعطي ذلك‏.‏ وقرأ باقي القراء وجمهور الناس كبير بالباء الموحدة، وحجتهم أن الذنب في القمار وشرب الخمر من الكبائر، فوصفه بالكبير أليق‏.‏ وأيضا فاتفاقهم على أكبر حجة لـ كبير بالباء بواحدة‏.‏ وأجمعوا على رفض أكثر بالثاء المثلثة، إلا في مصحف عبدالله بن مسعود فإن فيه قل فيهما إثم كثير وإثمهما أكثر بالثاء مثلثة في الحرفين‏.‏

قال قوم من أهل النظر‏:‏ حرمت الخمر بهذه الآية، لأن الله تعالى قد قال‏{‏قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم‏}‏الأعراف‏:‏ 33‏ فأخبر في هذه الآية أن فيها إثما فهو حرام‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ ليس هذا النظر بجيد، لأن الإثم الذي فيها هو الحرام، لا هي بعينها على ما يقتضيه هذا النظر‏.‏

قلت‏:‏ وقال بعضهم‏:‏ في هذه الآية ما دل على تحريم الخمر لأنه سماه إثما، وقد حرم الإثم في آية أخرى، وهو قوله عز وجل‏{‏قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم‏}‏ وقال بعضهم‏:‏ الإثم أراد به الخمر، بدليل قول الشاعر‏:‏

شربت الإثم حتى ضل عقلي كذاك الإثم يذهب بالعقول

قلت‏:‏ وهذا أيضا ليس بجيد، لأن الله تعالى لم يسم الخمر إثما في هذه الآية، وإنما قال‏{‏قل فيهما إثم كبير‏}‏ ولم يقل‏:‏ قل هما إثم كبير‏.‏ وأما آية الأعراف وبيت الشعر فيأتي الكلام فيهما هناك مبينا، إن شاء الله تعالى‏.‏ وقد قال قتادة‏:‏ إنما في هذه الآية ذم الخمر، فأما التحريم فيعلم بآية أخرى وهي آية المائدة وعلى هذا أكثر المفسرين‏.‏

قوله تعالى‏{‏ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون‏}‏ ‏{‏قل العفو‏}‏ قراءة الجمهور بالنصب‏.‏ وقرأ أبو عمرو وحده بالرفع‏.‏ واختلف فيه عن ابن كثير‏.‏ وبالرفع قراءة الحسن وقتادة وابن أبي إسحاق‏.‏ قال النحاس وغيره‏:‏ إن جعلت ‏{‏ذا‏}‏ بمعنى الذي كان الاختيار الرفع، على معنى‏:‏ الذي ينفقون هو العفو، وجاز النصب‏.‏ وإن جعلت ‏{‏ما‏}‏ و‏{‏ذا‏}‏ شيئا واحدا كان الاختيار النصب، على معنى‏:‏ قل ينفقون العفو، وجاز الرفع‏.‏ وحكى النحويون‏:‏ ماذا تعلمت‏:‏ أنحوا أم شعرا‏؟‏ بالنصب والرفع، على أنهما جيدان حسنان، إلا أن التفسير في الآية على النصب‏.‏

قال العلماء‏:‏ لما كان السؤال في الآية المتقدمة في قوله تعالى‏{‏ويسألونك ماذا ينفقون‏{‏ سؤالا عن النفقة إلى من تصرف، كما بيناه ودل عليه الجواب، والجواب خرج على وفق السؤال، كان السؤال الثاني في هذه الآية عن قدر الإنفاق، وهو في شأن عمرو بن الجموح - كما تقدم - فإنه لما نزل ‏{‏قل ما أنفقتم من خير فللوالدين‏}‏البقرة‏:‏ 215‏]‏ قال‏:‏ كم أنفق‏؟‏ فنزل‏{‏قل العفو‏}‏ والعفو‏:‏ ما سهل وتيسر وفضل، ولم يشق على القلب إخراجه، ومنه قول الشاعر‏:‏

خذي العفو مني تستديمي مودتي ولا تنطقي في سورتي حين أغضب

فالمعنى‏:‏ أنفقوا ما فضل عن حوائجكم، ولم تؤذوا فيه أنفسكم فتكونوا عالة، هذا أولى ما قيل في تأويل الآية، وهو معنى قول الحسن وقتادة وعطاء والسدي والقرظي محمد بن كعب وابن أبي ليلى وغيرهم، قالوا‏:‏ ‏(‏العفو ما فضل عن العيال‏)‏، ونحوه عن ابن عباس وقال مجاهد‏:‏ صدقة عن ظهر غنى وكذا قال عليه السلام‏:‏ ‏(‏خير الصدقة ما أنفقت عن غنى‏)‏ وفي حديث آخر‏:‏ ‏(‏خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى‏)‏‏.‏ وقال قيس بن سعد‏:‏ هذه الزكاة المفروضة‏.‏ وقال جمهور العلماء‏:‏ بل هي نفقات التطوع‏.‏ وقيل‏:‏ هي منسوخة‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ كان الرجل بعد نزول هذه الآية إذا كان له مال من ذهب أو فضة أو زرع أو ضرع نظر إلى ما يكفيه وعياله لنفقة سنة أمسكه وتصدق بسائره، وإن كان ممن يعمل بيده أمسك ما يكفيه وعياله يوما وتصدق بالباقي، حتى نزلت آيه الزكاة المفروضة فنسخت هذه الآية وكل صدقة أمروا بها‏.‏ وقال قوم‏:‏ هي محكمة، وفي المال حق سوى الزكاة‏.‏ والظاهر يدل على القول الأول‏.‏

قوله تعالى‏{‏كذلك يبين الله لكم الآيات‏}‏ قال المفضل بن سلمة‏:‏ أي في أمر النفقة‏.‏ ‏{‏لعلكم تتفكرون‏}‏ فتحبسون من أموالكم ما يصلحكم في معاش الدنيا وتنفقون الباقي فيما ينفعكم في العقبى‏.‏ وقيل‏:‏ في الكلام تقديم وتأخير، أي كذلك يبين الله لكم الآيات في أمر الدنيا والآخرة لعلكم تتفكرون في الدنيا وزوالها وفنائها فتزهدون فيها، وفي إقبال الآخرة وبقائها فترغبون فيها‏.‏

 الآية رقم ‏(‏220‏)‏

‏{‏في الدنيا والآخرة ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح ولو شاء الله لأعنتكم إن الله عزيز حكيم‏}‏

‏"‏روى أبو داود والنسائي عن ابن عباس‏"‏ قال‏:‏ ‏(‏لما أنزل الله تعالى‏{‏ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن‏}‏الأنعام‏:‏ 152‏ و‏{‏إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما‏}‏النساء‏:‏ 10‏ الآية، انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه فجعل يفضل من طعامه فيحبس له، حتى يأكله أو يفسد، فاشتد ذلك عليهم، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى‏{‏ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير‏}‏ الآية، فخلطوا طعامهم بطعامه وشرابهم بشرابه‏)‏، لفظ أبي داود‏.‏ والآية متصلة بما قبل، لأنه اقترن بذكر الأموال الأمر بحفظ أموال اليتامى‏.‏ وقيل‏:‏ إن السائل عبدالله بن رواحة‏.‏ وقيل‏:‏ كانت العرب تتشاءم بملابسة أموال اليتامى في مؤاكلتهم، فنزلت هذه الآية‏.‏

لما أذن الله جل وعز في مخالطة الأيتام مع قصد الإصلاح بالنظر إليهم وفيهم كان ذلك دليلا على جواز التصرف في مال اليتيم، تصرف الوصي في البيع والقسمة وغير ذلك، على الإطلاق لهذه الآية‏.‏ فإذا كفل الرجل اليتيم وحازه وكان في نظره جاز عليه فعله وإن لم يقدمه وال عليه، لأن الآية مطلقة والكفالة ولاية عامة‏.‏ لم يؤثر عن أحد من الخلفاء أنه قدم أحدا على يتيم مع وجودهم في أزمنتهم، وإنما كانوا يقتصرون على كونهم عندهم‏.‏

تواترت الآثار في دفع مال اليتيم مضاربة والتجارة فيه، وفي جواز خلط ماله بماله دلالة على جواز التصرف في ماله بالبيع والشراء إذا وافق الصلاح، وجواز دفعه مضاربة، إلى غير ذلك على ما نذكره مبينا‏.‏ واختلف في عمله هو قراضا، فمنعه أشهب، وقاسه على منعه من أن يبيع لهم من نفسه أو يشتري لها‏.‏ وقال غيره‏:‏ إذا أخذه على جزء من الربح بنسبة قراض مثله فيه أمضي، كشرائه شيئا لليتيم بتعقب فيكون أحسن لليتيم‏.‏ قال محمد بن عبدالحكم‏:‏ وله أن يبيع له بالدين إن رأى ذلك نظرا‏.‏ قال ابن كنانة‏:‏ وله أن ينفق في عرس اليتيم ما يصلح من صنيع وطيب، ومصلحته بقدر حاله وحال من يزوج إليه، وبقدر كثرة ماله‏.‏ قال‏:‏ وكذلك في ختانه، فإن خشي أن يتهم رفع ذلك إلى السلطان فيأمره بالقصد، وكل ما فعله على وجه النظر فهو جائز، وما فعله على وجه المحاباة وسوء النظر فلا يجوز‏.‏ ودل الظاهر على أن ولي اليتيم يعلمه أمر الدنيا والآخرة، ويستأجر له ويؤاجره ممن يعلمه الصناعات‏.‏ وإذا وهب لليتيم شيء فللوصي أن يقبضه لما فيه من الإصلاح‏.‏ وسيأتي لهذا مزيد بيان في النساء إن شاء الله تعالى‏.‏

ولما ينفقه الوصي والكفيل من مال اليتيم حالتان‏:‏ حالة يمكنه الإشهاد عليه، فلا يقبل قوله إلا ببينة‏.‏ وحالة لا يمكنه الإشهاد عليه فقوله مقبول بغير بينة، فمهما اشترى من العقار وما جرت العادة بالتوثق فيه لم يقبل قوله بغير بينة‏.‏ قال ابن خويز منداد‏:‏ ولذلك فرق أصحابنا بين أن يكون اليتيم في دار الوصي ينفق عليه فلا يكلف الإشهاد على نفقته وكسوته، لأنه يتعذر عليه الإشهاد على ما يأكله ويلبسه في كل وقت، ولكن إذا قال‏:‏ أنفقت نفقة لسنة قبل منه، وبين أن يكون عند أمه أو حاضنته فيدعي الوصي أنه كان ينفق عليه، أو كان يعطي الأم أو الحاضنة النفقة والكسوة فلا يقبل قوله على الأم أو الحاضنة إلا ببينة أنها كانت تقبض ذلك له مشاهرة أو مساناة‏.‏

واختلف العلماء في الرجل ينكح نفسه من يتيمه، وهل له أن يشتري لنفسه من مال يتيمه أو يتيمته‏؟‏ فقال مالك‏:‏ ولاية النكاح بالكفالة والحضانة أقوى منها بالقرابة، حتى قال في الأعراب الذين يسلمون أولادهم في أيام المجاعة‏:‏ إنهم ينكحونهم إنكاحهم، فأما إنكاح الكافل والحاضن لنفسه فيأتي في النساء بيانه، إن شاء الله تعالى‏.‏ وأما الشراء منه فقال مالك‏:‏ يشتري في مشهور الأقوال، وكذلك قال أبو حنيفة‏:‏ له أن يشتري مال الطفل اليتيم لنفسه بأكثر من ثمن المثل، لأنه إصلاح دل عليه ظاهر القرآن‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ لا يجوز ذلك في النكاح ولا في البيع، لأنه لم يذكر في الآية التصرف، بل قال‏{‏إصلاح لهم خير‏}‏ من غير أن يذكر فيه الذي يجوز له النظر‏.‏ وأبو حنيفة يقول‏:‏ إذا كان الإصلاح خيرا فيجوز تزويجه ويجوز أن يزوج منه‏.‏ والشافعي لا يرى في التزويج إصلاحا إلا من جهة دفع الحاجة، ولا حاجة قبل البلوغ‏.‏ وأحمد بن حنبل يجوز للوصي التزويج لأنه إصلاح‏.‏ والشافعي يجوز للجد التزويج مع الوصي، وللأب في حق ولده الذي ماتت أمه لا بحكم هذه الآية‏.‏ وأبو حنيفة يجوز للقاضي تزويج اليتيم بظاهر القرآن‏.‏ وهذه المذاهب نشأت من هذه الآية، فإن ثبت كون التزويج إصلاحا فظاهر الآية يقتضي جوازه‏.‏ ويجوز أن يكون معنى قوله تعالى‏{‏ويسألونك عن اليتامى‏}‏ أي يسألك القوام على اليتامى الكافلون لهم، وذلك مجمل لا يعلم منه عين الكافل والقيم وما يشترط فيه من الأوصاف‏.‏

فإن قيل‏:‏ يلزم ترك مالك أصله في التهمة والذرائع إذ جوز له الشراء من يتيمه، فالجواب أن ذلك لا يلزم، وإنما يكون ذلك ذريعة فيما يؤدى من الأفعال المحظورة إلى محظورة منصوص عليها، وأما ههنا فقد أذن الله سبحانه في صورة المخالطة، ووكل الحاضنين في ذلك إلى أمانتهم بقوله‏{‏والله يعلم المفسد من المصلح‏}‏ وكل أمر مخوف وكل الله سبحانه المكلف إلى أمانته لا يقال فيه‏:‏ إنه يتذرع إلى محظور به فيمنع منه، كما جعل الله النساء مؤتمنات على فروجهن، مع عظيم ما يترتب على قولهن في ذلك من الأحكام، ويرتبط به من الحل والحرمة والأنساب، وإن جاز أن يكذبن‏.‏ وكان طاوس إذا سئل عن شيء من أمر اليتامى قرأ‏{‏والله يعلم المفسد من المصلح‏}‏‏.‏ وكان ابن سيرين أحب الأشياء إليه في مال اليتيم أن يجتمع نصحاؤه فينظرون الذي هو خير له، ذكره البخاري‏.‏ وفي هذا دلالة على جواز الشراء منه لنفسه، كما ذكرنا‏.‏ والقول الآخر أنه لا ينبغي للولي أن يشتري مما تحت يده شيئا، لما يلحقه في ذلك من التهمة إلا أن يكون البيع في ذلك بيع سلطان في ملأ من الناس‏.‏ وقال محمد بن عبدالحكم‏:‏ لا يشتري من التركة، ولا بأس أن يدس من يشتري له منها إذا لم يعلم أنه من قبله‏.‏

قوله تعالى‏{‏وإن تخالطوهم فإخوانكم‏}‏ هذه المخالطة كخلط المثل بالمثل كالتمر بالتمر‏.‏ وقال أبو عبيد‏:‏ مخالطة اليتامى أن يكون لأحدهم المال ويشق على كافله أن يفرد طعامه عنه، ولا يجد بدا من خلطه بعياله فيأخذ من مال اليتيم ما يرى أنه كافيه بالتحري فيجعله مع نفقة أهله، وهذا قد يقع فيه الزيادة والنقصان، فجاءت هذه الآية الناسخة بالرخصة فيه‏.‏ قال أبو عبيد‏:‏ وهذا عندي أصل لما يفعله الرفقاء في الأسفار فإنهم يتخارجون النفقات بينهم بالسوية، وقد يتفاوتون في قلة المطعم وكثرته، وليس كل من قل مطعمه تطيب نفسه بالتفضل على رفيقه، فلما كان هذا في أموال اليتامى واسعا كان في غيرهم أوسع، ولولا ذلك لخفت أن يضيق فيه الأمر على الناس‏.‏

قوله تعالى‏{‏فإخوانكم‏}‏ خبر لمبتدأ محذوف، أي فهم إخوانكم، والفاء جواب الشرط‏.‏ وقوله تعالى‏{‏والله يعلم المفسد من المصلح‏}‏ تحذير، أي يعلم المفسد لأموال اليتامى من المصلح لها، فيجازي كلا على إصلاحه وإفساده‏.‏

قوله تعالى‏{‏ولو شاء الله لأعنتكم‏}‏‏"‏روى الحكم عن مقسم عن ابن عباس‏{‏ولو شاء الله لأعنتكم‏}‏ قال‏:‏‏(‏لو شاء لجعل ما أصبتم من أموال اليتامى موبقا‏)‏‏.‏ وقيل‏{‏لأعنتكم‏}‏ لأهلككم، عن الزجاج وأبي عبيدة‏.‏ وقال القتبي‏:‏ لضيق عليكم وشدد، ولكنه لم يشأ إلا التسهيل عليكم‏.‏ وقيل‏:‏ أي لكلفكم ما يشتد عليكم أداؤه وأثمكم في مخالطتهم، كما فعل بمن كان قبلكم، ولكنه خفف عنكم‏.‏ والعنت‏:‏ المشقة، وقد عنت وأعنته غيره‏.‏ ويقال للعظم المجبور إذا أصابه شيء فهاضه‏:‏ قد أعنته، فهو عنت ومعنت‏.‏ وعنتت الدابة تعنت عنتا‏:‏ إذا حدث في قوائمها كسر بعد جبر لا يمكنها معه جري‏.‏ وأكمة عنوت‏:‏ شاقة المصعد‏.‏ وقال ابن الأنباري‏:‏ أصل العنت التشديد، فإذا قالت العرب‏:‏ فلان يتعنت فلانا ويعنته فمرادها يشدد عليه ويلزمه ما يصعب عليه أداؤه، ثم نقلت إلى معنى الهلاك‏.‏ والأصل ما وصفنا‏.‏

قوله تعالى‏{‏إن الله عزيز‏}‏ أي لا يمتنع عليه شيء ‏{‏حكيم‏}‏ يتصرف في ملكه بما يريد لا حجر عليه، جل وتعالى علوا كبيرا‏.‏

 الآية رقم ‏(‏221‏)‏

‏{‏ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم أولئك يدعون إلى النار والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون‏}‏

قوله تعالى‏{‏ولا تنكحوا‏}‏ قراءة الجمهور بفتح التاء‏.‏ وقرئت في الشاذ بالضم، كأن المعنى أن المتزوج لها أنكحها من نفسه‏.‏ ونكح أصله الجماع، ويستعمل في التزوج تجوزا واتساعا، وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى‏.‏

لما أذن الله سبحانه وتعالى في مخالطة الأيتام، وفي مخالطة النكاح بين أن مناكحة المشركين لا تصح‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ نزلت هذه الآية في أبي مرثد الغنوي، وقيل‏:‏ في مرثد بن أبي مرثد، واسمه كناز بن حصين الغنوي، بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة سرا ليخرج رجلا من أصحابه، وكانت له بمكة امرأة يحبها في الجاهلية يقال لها ‏{‏عناق‏}‏ فجاءته، فقال لها‏:‏ إن الإسلام حرم ما كان في الجاهلية، قالت‏:‏ فتزوجني، قال‏:‏ حتى أستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فاستأذنه فنهاه عن التزوج بها، لأنه كان مسلما وهي مشركة‏.‏ وسيأتي في النور بيانه إن شاء الله تعالى‏.‏

واختلف العلماء في تأويل هذه الآية، فقالت طائفة‏:‏ حرم الله نكاح المشركات في سورة البقرة ثم نسخ من هذه الجملة نساء أهل الكتاب، فأحلهن في سورة المائدة ‏.‏ وروي هذا القول عن ابن عباس، وبه قال مالك بن أنس وسفيان بن سعيد الثوري، وعبدالرحمن بن عمرو الأوزاعي‏.‏ وقال قتادة وسعيد بن جبير‏:‏ لفظ الآية العموم في كل كافرة، والمراد بها الخصوص في الكتابيات، وبينت الخصوص آية المائدة ولم يتناول العموم قط الكتابيات‏.‏ وهذا أحد قولي الشافعي، وعلى القول الأول يتناولهن العموم، ثم نسخت آية المائدة بعض العموم‏.‏ وهذا مذهب مالك رحمه الله، ذكره ابن حبيب، وقال‏:‏ ونكاح اليهودية والنصرانية وإن كان قد أحله الله تعالى مستثقل مذموم‏.‏ وقال إسحاق بن إبراهيم الحربي‏:‏ ذهب قوم فجعلوا الآية التي في البقرة هي الناسخة، والتي في المائدة هي المنسوخة، فحرموا نكاح كل مشركة كتابية أو غير كتابية‏.‏ قال النحاس‏:‏ ومن الحجة لقائل هذا مما صح سنده ما حدثناه محمد بن ريان، قال‏:‏ حدثنا محمد بن رمح، قال‏:‏ حدثنا الليث عن نافع أن عبدالله بن عمر كان إذا سئل عن نكاح الرجل النصرانية أو اليهودية قال‏:‏ حرم الله المشركات على المؤمنين، ولا أعرف شيئا من الإشراك أعظم من أن تقول المرأة ربها عيسى، أو عبد من عباد الله‏!‏‏.‏ قال النحاس‏:‏ وهذا قول خارج عن قول الجماعة الذين تقوم بهم الحجة، لأنه قد قال بتحليل نكاح نساء أهل الكتاب من الصحابة والتابعين جماعة، منهم عثمان وطلحة وابن عباس وجابر وحذيفة‏.‏ ومن التابعين سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير والحسن ومجاهد وطاوس وعكرمة والشعبي والضحاك، وفقهاء الأمصار عليه‏.‏ وأيضا فيمتنع أن تكون هذه الآية من سورة البقرة ناسخة للآية التي في سورة المائدة لأن البقرة من أول ما نزل بالمدينة، و المائدة من آخر ما نزل‏.‏ وإنما الآخر ينسخ الأول، وأما حديث ابن عمر فلا حجة فيه، لأن ابن عمر رحمه الله كان رجلا متوقفا، فلما سمع الآيتين، في واحدة التحليل، وفي أخرى التحريم ولم يبلغه النسخ توقف، ولم يؤخذ عنه ذكر النسخ وإنما تؤول عليه، وليس يؤخذ الناسخ والمنسوخ بالتأويل‏.‏ وذكر ابن عطية‏:‏ وقال ابن عباس في بعض ما روي عنه‏:‏ ‏(‏إن الآية عامة في الوثنيات والمجوسيات والكتابيات، وكل من على غير الإسلام حرام‏)‏، فعلى هذا هي ناسخة للآية التي في المائدة وينظر إلى هذا قول ابن عمر في الموطأ‏:‏ ولا أعلم إشراكا أعظم من أن تقول المرأة ربها عيسى‏.‏ وروي عن عمر أنه فرق بين طلحة بن عبيدالله وحذيفة بن اليمان وبين كتابيتين وقالا‏:‏ نطلق يا أمير المؤمنين ولا تغضب، فقال‏:‏ لو جاز طلاقكما لجاز نكاحكما‏!‏ ولكن أفرق بينكما صغرة قمأة‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهذا لا يستند جيدا، وأسند منه أن عمر أراد التفريق بينهما فقال له حذيفة‏:‏ أتزعم أنها حرام فأخلي سبيلها يا أمير المؤمنين‏؟‏ فقال‏:‏ لا أزعم أنها حرام، ولكني أخاف أن تعاطوا المومسات منهن‏.‏ وروي عن ابن عباس نحو هذا‏.‏ وذكر ابن المنذر جواز نكاح الكتابيات عن عمر بن الخطاب، ومن ذكر من الصحابة والتابعين في قول النحاس‏.‏ وقال في آخر كلامه‏:‏ ولا يصح عن أحد من الأوائل أنه حرم ذلك‏.‏ وقال بعض العلماء‏:‏ وأما الآيتان فلا تعارض بينهما، فإن ظاهر لفظ الشرك لا يتناول أهل الكتاب، لقوله تعالى‏{‏ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم‏}‏البقرة‏:‏ 105‏‏، وقال‏{‏لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين‏}‏البينة‏:‏ 1‏ ففرق بينهم في اللفظ، وظاهر العطف يقتضي مغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه، وأيضا فاسم الشرك عموم وليس بنص، وقوله تعالى‏{‏والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب‏}‏المائدة‏:‏ 5‏ بعد قوله ‏{‏والمحصنات من المؤمنات‏}‏ نص، فلا تعارض بين المحتمل وبين ما لا يحتمل‏.‏ فإن قيل‏:‏ أراد بقوله‏{‏والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم‏}‏ أي أوتوا الكتاب من قبلكم وأسلموا، كقوله ‏{‏وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله‏}‏آل عمران‏:‏ 199‏‏ الآية‏.‏ وقوله‏{‏من أهل الكتاب أمة قائمة‏}‏آل عمران‏:‏ 113‏‏ الآية‏.‏ قيل له‏:‏ هذا خلاف نص الآية في قوله‏{‏والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم‏}‏ وخلاف ما قاله الجمهور، فإنه لا يشكل على أحد جواز التزويج ممن أسلم وصار من أعيان المسلمين‏.‏ فإن قالوا‏:‏ فقد قال الله تعالى‏{‏أولئك يدعون إلى النار‏}‏ فجعل العلة في تحريم نكاحهن الدعاء إلى النار‏.‏ والجواب أن ذلك علة لقوله تعالى‏{‏ولأمة مؤمنة خير من مشركة‏}‏ لأن المشرك يدعو إلى النار، وهذه العلة مطردة في جميع الكفار، فالمسلم خير من الكافر مطلقا، وهذا بين‏.‏

وأما نكاح أهل الكتاب إذا كانوا حربا فلا يحل، وسئل ابن عباس عن ذلك فقال‏:‏ لا يحل، وتلا قول الله تعالى‏{‏قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر‏}‏التوبة‏:‏ 29‏ إلى قوله ‏{‏صاغرون‏}‏‏.‏ قال المحدث‏:‏ حدثت بذلك إبراهيم النخعي فأعجبه‏.‏ وكره مالك تزوج الحربيات، لعلة ترك الولد في دار الحرب، ولتصرفها في الخمر والخنزير‏.‏

قوله تعالى‏{‏ولأمة مؤمنة خير من مشركة‏}‏ إخبار بأن المؤمنة المملوكة خير من المشركة، وإن كانت ذات الحسب والمال‏.‏ ‏{‏ولو أعجبتكم‏}‏ في الحسن وغير ذلك، هذا قول الطبري وغيره‏.‏ ونزلت في خنساء وليدة سوداء كانت لحذيفة بن اليمان، فقال لها حذيفة‏:‏ يا خنساء، قد ذكرت في الملأ الأعلى مع سوادك ودمامتك، وأنزل الله تعالى ذكرك في كتابه، فأعتقها حذيفة وتزوجها‏.‏ وقال السدي‏:‏ نزلت في عبدالله بن رواحة، كانت له أمة سوداء فلطمها في غضب ثم ندم، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال‏:‏ ‏(‏ما هي يا عبدالله‏)‏ قال‏:‏ تصوم وتصلي وتحسن الوضوء وتشهد الشهادتين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏هذه مؤمنة‏)‏‏.‏ فقال ابن رواحة‏:‏ لأعتقنها ولأتزوجنها، ففعل، فطعن عليه ناس من المسلمين وقالوا‏:‏ نكح أمة، وكانوا يرون أن ينكحوا إلى المشركين، وكانوا ينكحونهم رغبة في أحسابهم، فنزلت هذه الآية‏.‏ والله أعلم‏.‏

واختلف العلماء في نكاح إماء أهل الكتاب، فقال مالك‏:‏ لا يجوز نكاح الأمة الكتابية‏.‏ وقال أشهب في كتاب محمد، فيمن أسلم وتحته أمة كتابية‏:‏ إنه لا يفرق بينهما‏.‏ وقال أبو حنيفة وأصحابه، يجوز نكاح إماء أهل الكتاب‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ درسنا الشيخ أبو بكر الشاشي بمدينة السلام قال‏:‏ احتج أصحاب أبي حنيفة على جواز نكاح الأمة الكتابية بقوله تعالى‏{‏ولأمة مؤمنة خير من مشركة‏}‏‏.‏ ووجه الدليل من الآية أن الله سبحانه خاير بين نكاح الأمة المؤمنة والمشركة، فلولا أن نكاح الأمة المشركة جائز لما خاير الله تعالى بينهما، لأن المخايرة إنما هي بين الجائزين لا بين جائز وممتنع، ولا بين متضادين‏.‏ والجواب أن المخايرة بين الضدين تجوز لغة وقرآنا‏:‏ لأن الله سبحانه قال‏{‏أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا‏}‏الفرقان‏:‏ 24‏]‏‏.‏ وقال عمر في رسالته لأبي موسى الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل ‏.‏ جواب آخر‏:‏ قوله تعالى‏{‏ولأمة‏}‏ لم يرد به الرق المملوك وإنما أراد به الآدمية، والآدميات والآدميون بأجمعهم عبيدالله وإماؤه، قاله القاضي بالبصرة أبو العباس الجرجاني‏.‏

واختلفوا في نكاح نساء المجوس، فمنع مالك والشافعي وأبو حنيفة والأوزاعي وإسحاق من ذلك‏.‏ وقال ابن حنبل‏:‏ لا يعجبني‏.‏ وروي أن حذيفة بن اليمان تزوج مجوسية، وأن عمر قال له‏:‏ طلقها‏.‏ وقال ابن القصار‏:‏ قال بعض أصحابنا‏:‏ يجب على أحد القولين أن لهم كتابا أن تجوز مناكحتهم‏.‏ وروى ابن وهب عن مالك أن الأمة المجوسية لا يجوز أن توطأ بملك اليمين، وكذلك الوثنيات وغيرهن من الكافرات، وعلى هذا جماعة العلماء، إلا ما رواه يحيى بن أيوب عن ابن جريج عن عطاء وعمرو بن دينار أنهما سئلا عن نكاح الإماء المجوسيات، فقالا‏:‏ لا بأس بذلك‏.‏ وتأولا قول الله عز وجل‏{‏ولا تنكحوا المشركات‏}‏‏.‏ فهذا عندهما على عقد النكاح لا على الأمة المشتراة، واحتجا بسبي أوطاس، وأن الصحابة نكحوا الإماء منهن بملك اليمين‏.‏ قال النحاس‏:‏ وهذا قول شاذ، أما سبي أوطاس فقد يجوز أن يكون الإماء أسلمن فجاز نكاحهن وأما الاحتجاج بقوله تعالى‏{‏ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن‏}‏ فغلط، لأنهم حملوا النكاح على العقد، والنكاح في اللغة يقع على العقد وعلى الوطء، فلما قال‏{‏ولا تنكحوا المشركات‏}‏ حرم كل نكاح يقع على المشركات من نكاح ووطء‏.‏ وقال أبو عمر بن عبدالبر‏:‏ وقال الأوزاعي‏:‏ سألت الزهري عن الرجل يشتري المجوسية أيطؤها‏؟‏ فقال‏:‏ إذا شهدت أن لا إله إلا الله وطئها‏.‏ وعن يونس عن ابن شهاب قال‏:‏ لا يحل له أن يطأها حتى تسلم‏.‏ قال أبو عمر‏:‏ قول ابن شهاب لا يحل له أن يطأها حتى تسلم هذا - وهو أعلم الناس بالمغازي والسير - دليل على فساد قول من زعم أن سبي أوطاس وطئن ولم يسلمن‏.‏ روي ذلك عن طائفة منهم عطاء وعمرو بن دينار قالا‏:‏ لا بأس بوطء المجوسية، وهذا لم يلتفت إليه أحد من الفقهاء بالأمصار‏.‏ وقد جاء عن الحسن البصري - وهو ممن لم يكن غزوه ولا غزو أهل ناحيته إلا الفرس وما وراءهم من خراسان، وليس منهم أحد أهل كتاب - ما يبين لك كيف كانت السيرة في نسائهم إذا سبين، قال‏:‏ أخبرنا عبدالله بن محمد بن أسد، قال‏:‏ حدثنا إبراهيم بن أحمد بن فراس، قال‏:‏ حدثنا علي بن عبدالعزيز، قال‏:‏ حدثنا أبو عبيد، قال‏:‏ حدثنا هشام عن يونس عن الحسن، قال‏:‏ قال رجل له‏:‏ يا أبا سعيد كيف كنتم تصنعون إذا سبيتموهن‏؟‏ قال‏:‏ كنا نوجهها إلى القبلة ونأمرها أن تسلم وتشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ثم نأمرها أن تغتسل، وإذا أراد صاحبها أن يصيبها لم يصبها حتى يستبرئها‏.‏ وعلى هذا تأويل جماعة العلماء في قول الله تعالى‏{‏ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن‏}‏‏.‏ أنهن الوثنيات والمجوسيات، لأن الله تعالى قد أحل الكتابيات بقوله‏{‏والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم‏}‏ يعني العفائف، لا من شهر زناها من المسلمات‏.‏ ومنهم من كره نكاحها ووطأها بملك اليمين ما لم يكن منهن توبة، لما في ذلك من إفساد النسب‏.‏

قوله تعالى‏{‏ولا تنكحوا‏}‏ أي لا تزوجوا المسلمة من المشرك‏.‏ وأجمعت الأمة على أن المشرك لا يطأ المؤمنة بوجه، لما في ذلك من الغضاضة على الإسلام‏.‏ والقراء على ضم التاء من ‏{‏تنكحوا‏}‏‏.‏

في هذه الآية دليل بالنص على أن لا نكاح إلا بولي‏.‏ قال محمد بن علي بن الحسين‏{‏النكاح بولي في كتاب الله‏}‏، ثم قرأ ‏{‏ولا تنكحوا المشركين‏}‏‏.‏ قال ابن المنذر‏:‏ ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لا نكاح إلا بولي‏)‏ وقد اختلف أهل العلم في النكاح بغير ولي، فقال كثير من أهل العلم‏:‏ لا نكاح إلا بولي، روي هذا الحديث عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعلي بن أبي طالب وابن مسعود وابن عباس وأبي هريرة رضي الله عنهم، وبه قال سعيد بن المسيب والحسن البصري وعمر بن عبدالعزيز وجابر بن زيد وسفيان الثوري وابن أبي ليلى وابن شبرمة وابن المبارك والشافعي وعبيدالله بن الحسن وأحمد وإسحاق وأبو عبيد‏.‏

قلت‏:‏ وهو قول مالك رضي الله عنهم أجمعين وأبي ثور والطبري‏.‏ قال أبو عمر‏:‏ حجة من قال‏:‏ ‏(‏لا نكاح إلا بولي‏)‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ثبت عنه أنه قال‏:‏ ‏(‏لا نكاح إلا بولي‏)‏‏.‏‏"‏روى هذا الحديث شعبة والثوري عن أبي إسحاق عن أبي بردة عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا، فمن يقبل المراسيل يلزمه قبوله، وأما من لا يقبل المراسيل فيلزمه أيضا، لأن الذين وصلوه من أهل الحفظ والثقة‏.‏ وممن وصله إسرائيل وأبو عوانة كلاهما عن أبي إسحاق عن أبي بردة عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وإسرائيل ومن تابعه حفاظ، والحافظ تقبل زيادته، وهذه الزيادة يعضدها أصول، قال الله عز وجل‏{‏فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن‏}‏البقرة‏:‏ 232‏‏‏.‏ وهذه الآية نزلت في معقل بن يسار إذ عضل أخته عن مراجعة زوجها، قاله البخاري‏.‏ ولولا أن له حقا في الإنكاح ما نهي عن العضل‏.‏

قلت‏:‏ ومما يدل على هذا أيضا من الكتاب قوله‏{‏فانكحوهن بإذن أهلهن‏}‏النساء‏:‏ 25‏‏ وقوله‏{‏وأنكحوا الأيامى منكم‏}‏النور‏:‏ 32‏‏ فلم يخاطب تعالى بالنكاح غير الرجال، ولو كان إلى النساء لذكرهن‏.‏ وسيأتي بيان هذا في النور وقال تعالى حكاية عن شعيب في قصة موسى عليهما السلام‏{‏إني أريد أن أنكحك‏}‏ على ما يأتي بيانه في سورة القصص ‏.‏ وقال تعالى‏{‏الرجال قوامون على النساء‏}‏النساء‏:‏ 34‏]‏، فقد تعاضد الكتاب والسنة على أن لا نكاح إلا بولي‏.‏ قال الطبري‏:‏ في حديث حفصة حين تأيمت وعقد عمر عليها النكاح ولم تعقده هي إبطال قول من قال‏:‏ إن للمرأة البالغة المالكة لنفسها تزويج نفسها وعقد النكاح دون وليها، ولو كان ذلك لها لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدع خطبة حفصة لنفسها إذا كانت أولى بنفسها من أبيها، وخطبها إلى من لا يملك أمرها ولا العقد عليها، وفيه بيان قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏الأيم أحق بنفسها من وليها‏)‏ أن معنى ذلك أنها أحق بنفسها في أنه لا يعقد عليها إلا برضاها، لا أنها أحق بنفسها في أن تعقد عقد النكاح على نفسها دون وليها‏.‏ وروى الدارقطني عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تزوج المرأة المرأة ولا تزوج المرأة نفسها فإن الزانية هي التي تزوج نفسها‏)‏‏.‏ قال‏:‏ حديث صحيح‏.‏ وروى أبو داود من حديث سفيان عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل - ثلاث مرات - فإن دخل بها فالمهر لها بما أصاب منها فإن تشاجروا فالسلطان ولي من لا ولي له‏)‏ وهذا الحديث صحيح‏.‏ ولا اعتبار بقول ابن علية عن ابن جريج أنه قال‏:‏ سألت عنه الزهري فلم يعرفه، ولم يقل هذا أحد عن ابن جريج غير ابن علية، وقد رواه جماعة عن الزهري لم يذكروا ذلك، ولو ثبت هذا عن الزهري لم يكن في ذلك حجة، لأنه قد نقله عنه ثقات، منهم سليمان بن موسى وهو ثقة إمام وجعفر بن ربيعة، فلو نسيه الزهري لم يضره ذلك، لأن النسيان لا يعصم منه ابن آدم، قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏نسي آدم فنسيت ذريته‏)‏‏.‏ وكان صلى الله عليه وسلم ينسى، فمن سواه أحرى أن ينسى، ومن حفظ فهو حجة على من نسي، فإذا‏"‏روى الخبر ثقة فلا يضره نسيان من نسيه، هذا لو صح ما حكى ابن علية عن ابن جريج، فكيف وقد أنكر أهل العلم ذلك من حكايته ولم يعرجوا عليها‏.‏

قلت‏:‏ وقد أخرج هذا الحديث أبو حاتم محمد بن حبان التميمي البستي في المسند الصحيح له - على التقاسيم والأنواع من غير وجود قطع في سندها، ولا ثبوت جرح في ناقلها - عن حفص بن غياث عن ابن جريج عن سليمان بن موسى عن الزهري عن عروة عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل وما كان من نكاح على غير ذلك فهو باطل فإن تشاجروا فالسلطان ولي من لا ولي له‏)‏‏.‏ قال أبو حاتم‏:‏ لم يقل أحد في خبر ابن جريج عن سليمان بن موسى عن الزهري هذا‏:‏ ‏(‏وشاهدي عدل‏)‏ إلا ثلاثة أنفس‏:‏ سويد بن يحيى الأموي عن حفص بن غياث وعبدالله بن عبدالوهاب الجمحي عن خالد بن الحارث وعبدالرحمن بن يونس الرقي عن عيسى بن يونس، ولا يصح في الشاهدين غير هذا الخبر، وإذا ثبت هذا الخبر فقد صرح الكتاب والسنة بأن لا نكاح إلا بولي، فلا معنى لما خالفهما‏.‏ وقد كان الزهري والشعبي يقولان إذا زوجت المرأة نفسها كفؤا بشاهدين فذلك نكاح جائز ‏.‏ وكذلك كان أبو حنيفة يقول‏:‏ إذا زوجت المرأة نفسها كفؤا بشاهدين فذلك نكاح جائز، وهو قول زفر‏.‏ وإن زوجت نفسها غير كفء فالنكاح جائز، وللأولياء أن يفرقوا بينهما‏.‏ قال ابن المنذر‏:‏ وأما ما قاله النعمان فمخالف للسنة، خارج عن قول أكثر أهل العلم‏.‏ وبالخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نقول‏.‏ وقال أبو يوسف‏:‏ لا يجوز النكاح إلا بولي، فإن سلم الولي جاز، وإن أبى أن يسلم والزوج كفء أجازه القاضي‏.‏ وإنما يتم النكاح في قوله حين يجيزه القاضي، وهو قول محمد بن الحسن، وقد كان محمد بن الحسن يقول‏:‏ يأمر القاضي الولي بإجازته، فإن لم يفعل استأنف عقدا‏.‏ ولا خلاف بين أبي حنيفة وأصحابه أنه إذا أذن لها وليها فعقدت النكاح بنفسها جاز‏.‏ وقال الأوزاعي إذا ولت أمرها رجلا فزوجها كفؤا فالنكاح جائز، وليس للولي أن يفرق بينهما، إلا أن تكون عربية تزوجت مولى ، وهذا نحو مذهب مالك على ما يأتي‏.‏ وحمل القائلون بمذهب الزهري وأبي حنيفة والشعبي قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏لا نكاح إلا بولي‏)‏ على الكمال لا على الوجوب، كما قال عليه السلام‏:‏ ‏(‏لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد‏)‏ و‏(‏لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة‏)‏‏.‏ واستدلوا على هذا بقوله تعالى‏{‏فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن‏}‏البقرة‏:‏ 232‏‏، وقوله تعالى‏{‏فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف‏}‏البقرة‏:‏ 234‏، وبما‏"‏روى الدارقطني عن سماك بن حرب قال‏:‏ جاء رجل إلى علي رضي الله عنه فقال‏:‏ امرأة أنا وليها تزوجت بغير إذني‏؟‏ فقال علي‏:‏ ينظر فيما صنعت، فإن كانت تزوجت كفؤا أجزنا ذلك لها، وإن كانت تزوجت من ليس لها بكفء جعلنا ذلك إليك‏.‏ وفي الموطأ أن عائشة رضي الله عنها زوجت بنت أخيها عبدالرحمن وهو غائب، الحديث‏.‏ وقد رواه ابن جريج عن عبدالرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر عن أبيه عن عائشة رضى الله عنها أنها أنكحت رجلا هو المنذر بن الزبير امرأة من بني أخيها فضربت بينهم بستر، ثم تكلمت حتى إذا لم يبق إلا العقد أمرت رجلا فأنكح، ثم قالت‏:‏ ليس على النساء إنكاح‏.‏ فالوجه في حديث مالك أن عائشة قررت المهر وأحوال النكاح، وتولى العقد أحد عصبتها، ونسب العقد إلى عائشة لما كان تقريره إليها‏.‏

ذكر ابن خويز منداد‏:‏ واختلفت الرواية عن مالك في الأولياء، من هم‏؟‏ فقال مرة‏:‏ كل من وضع المرأة في منصب حسن فهو وليها، سواء كان من العصبة أو من ذوي الأرحام أو الأجانب أو الإمام أو الوصي‏.‏ وقال مرة‏:‏ الأولياء من العصبة، فمن وضعها منهم في منصب حسن فهو ولي‏.‏ وقال أبو عمر‏:‏ قال مالك فيما ذكر ابن القاسم عنه‏:‏ إن المرأة إذا زوجها غير وليها بإذنها فإن كانت شريفة لها في الناس حال كان وليها بالخيار في فسخ النكاح وإقراره، وإن كانت دنيئة كالمعتقة والسوداء والسعاية والمسلمانية، ومن لا حال لها جاز نكاحها، ولا خيار لوليها لأن كل واحد كفء لها، وقد روي عن مالك أن الشريفة والدنيئة لا يزوجها إلا وليها أو السلطان، وهذا القول اختاره ابن المنذر، قال‏:‏ وأما تفريق مالك بين المسكينة والتي لها قدر فغير جائز، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد سوى بين أحكامهم في الدماء فقال‏:‏ ‏(‏المسلمون تتكافأ دماؤهم‏)‏‏.‏ وإذا كانوا في الدماء سواء فهم في غير ذلك شيء واحد‏.‏ وقال إسماعيل بن إسحاق‏:‏ لما أمر الله سبحانه بالنكاح جعل المؤمنين بعضهم أولياء بعض فقال تعالى‏{‏والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض‏}‏التوبة‏:‏ 71‏ والمؤمنون في الجملة هكذا يرث بعضهم بعضا، فلو أن رجلا مات ولا وارث له لكان ميراثه لجماعة المسلمين، ولو جنى جناية لعقل عنه المسلمون، ثم تكون ولاية أقرب من ولاية، وقرابة أقرب من قرابة‏.‏ وإذا كانت المرأة بموضع لا سلطان فيه ولا ولي لها فإنها تصير أمرها إلى من يوثق به من جيرانها، فيزوجها ويكون هو وليها في هذه الحال، لأن الناس لا بد لهم من التزويج، وإنما يعملون فيه بأحسن ما يمكن، وعلى هذا قال مالك في المرأة الضعيفة الحال‏:‏ إنه يزوجها من تسند أمرها إليه، لأنها ممن تضعف عن السلطان فأشبهت من لا سلطان بحضرتها، فرجعت في الجملة إلى أن المسلمين أولياؤها، فأما إذا صيرت أمرها إلى رجل وتركت أولياءها فإنها أخذت الأمر من غير وجهه، وفعلت ما ينكره الحاكم عليها والمسلمون، فيفسخ ذلك النكاح من غير أن يعلم أن حقيقته حرام، لما وصفنا من أن المؤمنين بعضهم أولياء بعض، ولما في ذلك من الاختلاف، ولكن يفسخ لتناول الأمر من غير وجهه، ولأنه أحوط للفروج ولتحصينها، فإذا وقع الدخول وتطاول الأمر وولدت الأولاد وكان صوابا لم يجز الفسخ، لأن الأمور إذا تفاوتت لم يرد منها إلا الحرام الذي لا يشك فيه، ويشبه ما فات من ذلك بحكم الحاكم إذا حكم بحكم لم يفسخ إلا أن يكون خطأ لا شك فيه‏.‏ وأما الشافعي وأصحابه فالنكاح عندهم بغير ولي مفسوخ أبدا قبل الدخول وبعده، ولا يتوارثان إن مات أحدهما‏.‏ والولي عندهم من فرائض النكاح، لقيام الدليل عندهم من الكتاب والسنة‏:‏ قال الله تعالى‏{‏وأنكحوا الأيامى منكم‏}‏النور‏:‏ 32‏ كما قال‏{‏فانكحوهن بإذن أهلهن‏}‏النساء‏:‏ 25‏‏، وقال مخاطبا للأولياء‏{‏فلا تعضلوهن‏}‏البقرة‏:‏ 232‏.‏ وقال عليه السلام‏:‏ ‏(‏لا نكاح إلا بولي‏)‏‏.‏ ولم يفرقوا بين دنية الحال وبين الشريفة، لإجماع العلماء على أن لا فرق بينهما في الدماء، لقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏المسلمون تتكافأ دماؤهم‏)‏‏.‏ وسائر الأحكام كذلك‏.‏ وليس في شيء من ذلك فرق بين الرفيع والوضيع في كتاب ولا سنة‏.‏

واختلفوا في النكاح يقع على غير ولي ثم يجيزه الولي قبل الدخول، فقال مالك وأصحابه إلا عبدالملك‏:‏ ذلك جائز، إذا كانت إجازته لذلك بالقرب، وسواء دخل أو لم يدخل‏.‏ هذا إذا عقد النكاح غير ولي ولم تعقده المرأة بنفسها، فإن زوجت المرأة نفسها وعقدت عقدة النكاح من غير ولي قريب ولا بعيد من المسلمين فإن هذا النكاح لا يقر أبدا على حال وإن تطاول وولدت الأولاد، ولكنه يلحق الولد إن دخل، ويسقط الحد، ولا بد من فسخ ذلك النكاح على كل حال‏.‏ وقال ابن نافع عن مالك‏:‏ الفسخ فيه بغير طلاق‏.‏

واختلف العلماء في منازل الأولياء وترتيبهم، فكان مالك يقول‏:‏ أولهم البنون وإن سفلوا، ثم الآباء، ثم الإخوة للأب والأم، ثم للأب، ثم بنو الإخوة للأب والأم، ثم بنو الإخوة للأب، ثم الأجداد للأب وإن علوا، ثم العمومة على ترتيب الإخوة، ثم بنوهم على ترتيب بني الإخوة وإن سفلوا، ثم المولى ثم السلطان أو قاضيه‏.‏ والوصي مقدم في إنكاح الأيتام على الأولياء، وهو خليفة الأب ووكيله، فأشبه حاله لو كان الأب حيا‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ لا ولاية لأحد مع الأب، فإن مات فالجد، ثم أب أب الجد، لأنهم كلهم آباء‏.‏ والولاية بعد الجد للإخوة، ثم الأقرب‏.‏ وقال المزني‏:‏ قال في الجديد‏:‏ من انفرد بأم كان أولى بالنكاح، كالميراث‏.‏ وقال في القديم‏:‏ هما سواء‏.‏

قلت‏:‏ وروى المدنيون عن مالك مثل قول الشافعي، وأن الأب أولى من الابن، وهو أحد قولي أبي حنيفة، حكاه الباجي‏.‏ وروي عن المغيرة أنه قال الجد أولى من الإخوة ، والمشهور من المذهب ما قدمناه‏.‏ وقال أحمد‏:‏ أحقهم بالمرأة أن يزوجها أبوها، ثم الابن، ثم الأخ، ثم ابنه، ثم العم‏.‏ وقال إسحاق‏:‏ الابن أولى من الأب، كما قاله مالك، واختاره ابن المنذر، لأن عمر ابن أم سلمة زوجها بإذنها من رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

قلت‏:‏ أخرجه النسائي عن أم سلمة وترجم له ‏(‏إنكاح الابن أمه‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ وكثيرا ما يستدل بهذا علماؤنا وليس بشيء، والدليل على ذلك ما ثبت في الصحاح أن عمر بن أبي سلمة قال‏:‏ كنت غلاما في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت يدي تطيش في الصحفة، فقال‏:‏ ‏(‏يا غلام سم الله وكل بيمينك وكل مما يليك‏)‏‏.‏ وقال أبو عمر في كتاب الاستيعاب‏:‏ عمر بن أبي سلمة يكنى أبا حفص، ولد في السنة الثانية من الهجرة بأرض الحبشة‏.‏ وقيل‏:‏ إنه كان يوم قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن تسع سنين‏.‏

قلت‏:‏ ومن كان سنه هذا لا يصلح أن يكون وليا، ولكن ذكر أبو عمر أن لأبي سلمة من أم سلمة ابنا آخر اسمه سلمة، وهو الذي عقد لرسول الله صلى الله عليه وسلم على أمه أم سلمة، وكان سلمة أسن من أخيه عمر بن أبي سلمة، ولا أحفظ له رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد‏"‏روى عنه عمر أخوه‏.‏

واختلفوا في الرجل يزوج المرأة الأبعد من الأولياء - كذا وقع، والأقرب عبارة أن يقال‏:‏ اختلف في المرأة يزوجها من أوليائها الأبعد والأقعد حاضر، فقال الشافعي‏:‏ النكاح باطل‏.‏ وقال مالك‏:‏ النكاح جائز‏.‏ قال ابن عبدالبر‏:‏ إن لم ينكر الأقعد شيئا من ذلك ولا رده نفذ، وإن أنكره وهي ثيب أو بكر بالغ يتيمة ولا وصي لها فقد اختلف قول مالك وأصحابه وجماعة من أهل المدينة في ذلك، فقال منهم قائلون‏:‏ لا يرد ذلك وينفذ، لأنه نكاح انعقد بإذن ولي من الفخذ والعشيرة‏.‏ ومن قال هذا منهم لا ينفذ قال‏:‏ إنما جاءت الرتبة في الأولياء على الأفضل والأولى، وذلك مستحب وليس بواجب‏.‏ وهذا تحصيل مذهب مالك عند أكثر أصحابه، وإياه اختار إسماعيل بن إسحاق وأتباعه‏.‏ وقيل‏:‏ ينظر السلطان في ذلك ويسأل الولي الأقرب على ما ينكره، ثم إن رأى إمضاءه أمضاه، وإن رأى أن يرده رده‏.‏ وقيل‏:‏ بل للأقعد رده على كل حال، لأنه حق له‏.‏ وقيل‏:‏ له رده وإجازته ما لم يطل مكثها وتلد الأولاد، وهذه كلها أقاويل أهل المدينة‏.‏

ولو كان الولي الأقرب محبوسا أو سفيها زوجها من يليه من أوليائها، وعد كالميت منهم، وكذلك إذا غاب الأقرب من أوليائها غيبة بعيدة أو غيبة لا يرجى لها أوبة سريعة زوجها من يليه من الأولياء‏.‏ وقد قيل‏:‏ إذا غاب أقرب أوليائها لم يكن للذي يليه تزويجها، ويزوجها الحاكم، والأول قول مالك‏.‏

وإذا كان الوليان قد استويا في القعدد وغاب أحدهما وفوضت المرأة عقد نكاحها إلى الحاضر لم يكن للغائب إن قدم نكرته‏.‏ وإن كانا حاضرين ففوضت أمرها إلى أحدهما لم يزوجها إلا بإذن صاحبه، فإن اختلفا نظر الحاكم في ذلك، وأجاز عليها رأي أحسنهما نظرا لها، رواه ابن وهب عن مالك‏.‏

وأما الشهادة على النكاح فليست بركن عند مالك وأصحابه، ويكفي من ذلك شهرته والإعلان به، وخرج عن أن يكون نكاح سر‏.‏ قال ابن القاسم عن مالك‏:‏ لو زوج ببينة، وأمرهم أن يكتموا ذلك لم يجز النكاح، لأنه نكاح سر‏.‏ وإن تزوج بغير بينة على غير استسرار جاز، وأشهدا فيما يستقبلان‏.‏ وروى ابن وهب عن مالك في الرجل يتزوج المرأة بشهادة رجلين ويستكتمهما قال‏:‏ يفرق بينهما بتطليقة ولا يجوز النكاح، ولها صداقها إن كان أصابها، ولا يعاقب الشاهدان‏.‏ وقال أبو حنيفة والشافعي وأصحابهما‏:‏ إذا تزوجها بشاهدين وقال لهما‏:‏ اكتما جاز النكاح‏.‏ قال أبو عمر‏:‏ وهذا قول يحيى بن يحيى الليثي الأندلسي صاحبنا، قال‏:‏ كل نكاح شهد عليه رجلان فقد خرج من حد السر، وأظنه حكاه عن الليث بن سعد‏.‏ والسر عند الشافعي والكوفيين ومن تابعهم‏:‏ كل نكاح لم يشهد عليه رجلان فصاعدا، ويفسخ على كل حال‏.‏

قلت‏:‏ قول الشافعي أصح للحديث الذي ذكرناه‏.‏ وروى عن ابن عباس أنه قال‏:‏ ‏(‏لا نكاح إلا بشاهدي عدل وولي مرشد‏)‏، ولا مخالف له من الصحابة فيما علمته‏.‏ واحتج مالك لمذهبه أن البيوع التي ذكرها الله تعالى فيها الإشهاد عند العقد، وقد قامت الدلالة بأن ذلك ليس من فرائض البيوع‏.‏ والنكاح الذي لم يذكر الله تعالى فيه الأشهاد أحرى بألا يكون الإشهاد فيه من شروطه وفرائضه، وإنما الغرض الإعلان والظهور لحفظ الأنساب‏.‏ والإشهاد يصلح بعد العقد للتداعي والاختلاف فيما ينعقد بين المتناكحين، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏أعلنوا النكاح‏)‏‏.‏ وقول مالك هذا قول ابن شهاب وأكثر أهل المدينة‏.‏

قوله تعالى‏{‏ولعبد مؤمن‏}‏ أي مملوك ‏{‏خير من مشرك‏}‏ أي حسيب‏.‏ ‏{‏ولو أعجبكم‏}‏ أي حسبه وماله، حسب ما تقدم‏.‏ وقيل المعنى‏:‏ ولرجل مؤمن، وكذا ولأمة مؤمنة، أي ولامرأة مؤمنة، كما بيناه‏.‏ قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏كل رجالكم عبيدالله وكل نسائكم إماء الله‏)‏ وقال‏:‏ ‏(‏لا تمنعوا إماء الله مساجد الله‏)‏ وقال تعالى‏{‏نعم العبد إنه أواب‏}‏ص‏:‏ 30، 44‏‏‏.‏ وهذا أحسن ما حمل عليه القول في هذه الآية، وبه يرتفع النزاع ويزول الخلاف، والله الموفق‏.‏

قوله تعالى‏{‏أولئك‏}‏ إشارة للمشركين والمشركات‏.‏ ‏{‏يدعون إلى النار‏}‏ أي إلى الأعمال الموجبة للنار، فإن صحبتهم ومعاشرتهم توجب الانحطاط في كثير من هواهم مع تربيتهم النسل‏.‏ ‏{‏والله يدعو إلى الجنة والمغفرة‏}‏ أي إلى عمل أهل الجنة‏.‏ ‏{‏بإذنه‏}‏ أي بأمره، قاله الزجاج‏.‏